حكاية مملكة كوش القديمة
د. إسماعيل حامد
تعتبر هذه المملكة أقدم الممالك التي قامت في السودان الحالي، أو ما تعرف ببلاد سودان وادي النيل، حسب المصطلح الوسيط، وقد ورد اسم "كوش" أو أرض كوش Kush Land of في النصوص المصرية القديمة، ولعل من أهمها ما ورد في ألواح "تل العمارنة" التي ترجع إلى أيام "الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية (1550-1295 ق.م)، وتحديدًا خلال حكم كل من الفراعنة "أمنحتب الثالث" (1390-1352 ق.م)، وابنه الملك "أمنحت الرابع"، وهو الذي اشتهر باسم "أخناتون" (1352-1336 ق.م)، وعلى هذا يرجع بعض الباحثين تلك التسمية لحوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وقد ورد اسم هذه البلاد (كوش) "كاشو" Kachu، و"كاشا" Kasha، و"كاسي" Kasi، أما في ثنايا النصوص الحبشية القديمة، فقد ورد اسم "مملكة كوش" في إحدى اللوحات القديمة التي تؤخ إلى عصر الملك "عيزانا" حاكم أكسوم، وقد أطلق عليها اسم: كاسو (كسو) Kasu.
وتوجد بالقرب من الجندل الثالث (أو الشلال الثالث حسب البعض) شمال السودان حاليا بلدة اسمها: (كوشا)، ولا ريب أن هذا الاسم نسبة لتأثيرات حضارة كوش ومملكتها القديمة، وهي التي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا.
وقد اشتهر سكان "مملكة كوش" القديمة بالزراعة والصناعات المعدنية، وكذلك ازدهر النشاط التجارة في بلادهم، واشتهرت مملكة كوش باسم "مملكة نباتا" (أو مملكة نبتا حسب البعض)، وذلك نسبة لمدينة نباتا التي صارت عاصمة لهذه المملكة، كما عرفت هذه المملكة أيضا باسم "مملكة مروي" (أو مرو).
ويرجع أصول مؤسسي "مملكة كوش" القديمة إلى أصول مصرية، فقد كانوا في الأصل من كهنة أمون الذين هاجروا إلى جنوب أقاليم وادي النيل بسبب اضطراب الأحوال في مصر بعد سقوط الأسرة العشرين، ومن ثم وقعت مصر فيما يعرف بالعصر المتأخر خلال الأسرات المتأخرة من الأسرة الحادية والعشرين حتى الأسرة الثلاثين، آخر الأسرات المصرية القديمة.
وعلى هذا أعلن كهنة طيبة أنفسهم سادة على بلاد كوش بعد أن صاهروا سكان كوش، وأنشأوا بيتا مالكا جديدا، وقد زعم حكام كوش بأنهم ليسوا حكام كوش فقط، بل هم حكام طيبة (الأقصر) أيضًا، كما كانت التقاليد من قبل.
الملك ألارا وابنه كاشتا:
يذكر العلماء أن أول الملوك المعروفين من هذه الأسرة النوبية الحاكمة ذات الأصول المصرية، والتي تأسست في "مملكة كوش"، كان قد اشتهر باسم "الملك ألارا" King Alara، وهو الذي خلفه ابنه من بعده الملك "كاشتا" Kashta، وكان الأخير يتجه بقلبه نحو الشمال من بلاد كوش حتى يضم تلك الأراضي للملكة الجديدة، لكن امتداد تخوم مملكة كوش صوب الشمال لم يتم إلا بعده وفي أيام ابنه الملك بعنخي.
الملك بعنخي:
ظل الملك "بعنخي" Bi-ankhi (747-716 ق.م) قرابة 20 سنة حاكما في منطقة نباتا، ولم يفكر في إرسال الجيوش إلى الشمال حيث الأراضي المصرية إلا عندما جاءته الأخبار بأن الملك "تف نخت" بدأ في زحفه نحو مدن الصعيد، وقد كانت الأخبار تصل إليه من طيبة (الأقصر حاليا) بانتظام بما يجري في الشمال، وعلى هذا تواجه جيش الملك بعنخي مع جيش تف نخت ملك الشمال، وكان الانتصار حليف الجيش الجنوبي التابع لكوش في طيبة، ثم حقق بعنخي انتصارا آخر قرب إهناسيا (تقع في محافظة بني سويف حاليا) في طريقه نحو الشمال.
وتمتعت "مملكة كوش" بعلاقات تجارية مع العديد من الممالك الواقعة في منطقة شرق إفريقيا، كما كان لسكان هذه المملكة علاقات تجارية مع المصريين في ذلك الوقت.
وكانت بلاد كوش تتبع نفوذ حكام مصر منذ الدولة الوسطى، وخلال عصر الدولة الحديثة، وظهر لقب يحمل صاحبه اسم: "نائب الملك في كوش"، وهو ما يشير لأهمية بلاد كوش لملوك مصر القديمة.
وكانت العديد من صور الصراعات قد جمع بين كل من ملوك كوش وملوك أكسوم في بلاد الحبشة، وانتهت بهزيمة ملوك كوش، وهو ما أدى إلى تحول الطريق التجاري الذي كان يمر عبر أراضي مملكة كوش القديمة، ومن ثم صار يمر عبر مملكة أكسوم وتحت نفوذها، خاصة عبر ميناء أدوليس Adulis.
الملك حارسيوتيف (397-362 ق.م):
يعتبر هذا الملك من الحكام القدامى لـ"مملكة كوش" القديمة، وقد عاش الملك الكوشي "حارسيوتيف" (397-362 ق.م) إبان القرن الرابع قبل الميلاد، وقد بدأت مدة حكمه منذ سنة 397 ق.م، ودام حكمه حوالي 35 سنة حتى سنة 362 ق.م، وتبدو على اسم هذا الملك دون ريب التأثيرت اللغوية المصرية القديمة، فلفظ حار لعله مشتق من كلمة حر أو حور، ويقصد بها المعبود القديم حورس، وهو أحد أضلاع الثالوث الأوزيري المعروف في اللاهوت المصري القديم.
وشهدت أيام هذا الملك العديد من مظاهر الحروب والصراعات مع حكام مملكة أكسوم القديمة في بلاد الحبشة، ورغم حدة الصراعات في ذلك الوقت إلا أنها لم يكن لها نتيجة حاسمة، ربما بسبب تعادل كفة القوتين، ولم يحسم الصراع إلا في القرن الرابع الميلادي بانتصار ملك أكسوم المعروف "عيزانا" على ملوك كوش.
الملك ناستاسين (328-308 ق.م):
ارتقى الملك "ناستاسين" سدة العرش في مملكة كوش سنة 328 ق.م، ودام حكمه نوح عقدين من الزمان، وقد شهدت أيامه هو الآخر صراعات عسكرية مع حكام مملكة أكسوم، غير أنها لم تكن حاسمة في ذلك الوقت أيضًا.
ويشير بعض المؤرخين إلى أنه خلال النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد حدث نوع من الاتحاد بين كل من نباتا ومروي وإرجامين، وعلى الراجح أن هذا الاتحاد لم يدم وقتا طويلا، حيث حدث الانفصال بينهم مرة أخرى، وعلى أي حال سقطت "مملكة كوش" أو "مملكة مروي" حسب البعض خلال القرن الرابع الميلادي، وعن ذلك يقول الدكتور الشاطر بصيلي: "واستمر الحكم في مرو (أو مروي) حتى هجوم عيزانا ملك إثيوبيا على حوش نهر العطبرة، وتخريب مملكة مروي في منتصف القرن الرابع الميلادي، وقامت بعد ذلك مملكة علوة وقوامها من المصريين أحفاد جنود أسماتيك..".
أهرامات كوش:
ارتبطت بلاد النوبة بالحضارة المصرية القديمة أشد الارتباط من الناحية الحضارية، حيث تأثرت هذه البلاد بالكثير من شتى مناحي الحياة وأنماط الفنون وكذلك العمارة، وبما كان سائدًا في مصر القديمة، ولهذا قامت في بلاد النوبة حضارات قديمة غلب عليها التأثيرات المصرية، مثل (حضارة نباتا)، وهي تقع بالقرب من الجندل الرابع واشتهرت بوجود الأهرامات، مثل "أهرامات الكورو" التي يبلغ عددها حوالي 35 هرمًا، وكذلـك الأهرامات التي شيدت في منطقة "جبل البرقل"، وهي أهرامات متواضعة، وصغيرة الحجم مقارنة بالأهرامات المصرية القديمة.
وعن هذه الأهرامات الموجودة في بلاد كوش القديمة وأهميتها التاريخية والمعمارية ومدى الارتباط بينها وبين الأهرامات المصرية، يقول الدكتور شوقي عطا الله الجمل: "ولعلها أقدم أهرامات أقيمت في السودان، ويبدو أنها بنيت كتقليد لأهرامات الدولة القديمة في مصر.."
أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي
















