عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
 "فيصل".. البيروتي مأوى العقائديين وصالون الشعراء والأدباء!

الغربة الأولى 19

"فيصل".. البيروتي مأوى العقائديين وصالون الشعراء والأدباء!

كنت كل ليلة، أترك همومي وإنشغالي وحيرتي على عتبة الشقة، أتحايل على نفسي، أكبت حسرتي، لكي لا تشعر زوجتي بمضاء الأزمة، وهي من النسوة اللائي يأكل الهمّ من صحونهن، ولم أدع شيرين أو شريف يشعران بأي تغير،  وكان إسلام شلبي يعيش الوضع نفسه مع زوجته وولديه عمر وداليا.



 

 

حاولنا التعافي من الحزن، واستعادة الثقة بانفسنا وبالحياة، وأن نتصبر بالامل، إلاّ أننا كنّا مثل جرح على بُرئِهِ نازِفاً..

أخذ كل واحد منا يفكر بالآخر :

 

 

سي عبد الغفار أفندي، على الرغم من عشقه لبيروت، فإن لا شيء يربطه بها سوى العمل، وكأن قلبه كان دليله، أجّل مرات عدة، إحضار عائلته الى لبنان، فقرر العودة إلى القاهرة.

 

 

فاطمة، "بنوتة" المكتب، تعّد الأيام على أصابعها، لتقترن بالرجل الذي أحبت، والحبيب يغار عليها من النسيم إن داعب خديها، يريدها "ست بيت"، فقط!

 

 

علاء توّكل " بياع " اكتسب خبرة التاجر اللبناني الشاطر فكان علاء يكرر دائماً، "إن التاجر اللبناني يستطيع حتى بيع الرمل للعرب"،  فقرر استغلال معرفته بالسوق اللبناني والمصري ، والاتجار بين البلدين.

 

 

تولى إسلام شلبي تصفية المكتب، ومعالجة القضايا القانونية المترتبة على ذلك... أما أنا، فقد واجهت مسائل شائكة، أولها، التخلص من عقد ايجار المطبعة، فلقيت من أصحاب  المُلك في "المكلس"، تفهماً أثلج قلبي، فأُلغي العقد، من دون جزاء ، على الرغم من أنه نص على بند جزائي مُلزِم.

 

جوزف عبود، خفّف عني حرجي:

 

"و لا يهمك... حصل خير."

 

ربّت على كتفي ، مطيباً خاطري.

 

نقولا وإحسان قارة كنا بمنتهى التهذيب، تفهما ما حصل.

و وسط دوامة الإضطراب القهري والخوف، مع الأمل بالخروج من الأزمة الى فرصة أفضل، آثر إسلام الإنطواء، ولزم الصمت، وحالف العبوس، لا يخالط أحداً، ولا يألف أحداً من الناس. فتمكنت من إخرجه من تلك الشرنقة، فاجأته:

" دعنا نذهب للغداء وربّك يدبرها ".

 

 

رمقني بنظرة سريعة، حاول أن يَجدُلَ الحديث، تنغم صوتي:

" نكمل الحديث في مطعم فيصل".

 

 

وكنت أعرف أن ذلك المطعم الواقع في "شارع بلس"، مقابلة "الجامعة الأمريكية"،  مكانه المفضل من أيام الدراسة.

 

 

... هناك إلتقى أصدقاء الدراسة ، ولاحت بادرة أمل ..

 

 

بعضُ الأماكِنِ، يقف عندها التاريخ، يحني هامته و...يصمت.

 

 

و لبعضِ الأماكن على بعضِ الأماكن، دلالات، وتَشاوف، وعلامات أزمنة.

 

ما من مثقف، ومفكر، وكاتب، وشاعر، وسياسي. أو فنان، إبن البلد، كان، أو من بلاد العرب الواسعة، قُيِّضَ لهُ أن يعايش في لبنان تجربة "دولتشي فيتا" و"هورس شو"و... "فيصل"، إلا  وإنفطر قلبه إلتياعاً، وهو يستذكر تلك المقاهي الثلاثة، وإستحوذت عليه الحسرة على ماضٍ، كانت أيامه ولا أحلى، ولا أصفى، ولا أغنى...  وغمره الحزن على بيروت التي كانت... وكانت، فأذاقوها المُرَّ والعلقم، ثم نحروها من الوريد الى الوريد.

 

 

"شارع بلس"، ويكفي ذكر الإسم، حتى تستفيق في الذاكرة وجوه وحوادث، كانت علامات فارقة في دنيا العرب. قالوا فيه وقالوا ... وتاهت الذكريات.

 

 

موازٍ لشارع "الحمرا" هو، مساره من الشرق الى الغرب، ويتصل بشارع "كليمنصو" الى الشرق، وينتهي في شارع "الجنرال ديجول"، الذي يتمدد على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط.

 

 

ذلكم "شارع بلس"، والإسم، إسم المبشر الأمريكي دانيال بلس Daniel Bliss الذي حل في لبنان، فعشقه، وطاب له  فيه  هواه، فأسس في بيروت سنة 1866 وترأس "الكلية السورية البروتستنتية"، التي صارت "الجامعة الأمريكية" لتصبح من أهم المنائر في الشرق، وعلى مقاعدها جلس سياسيون، ومفكرون، وعلماء... كان لهم شأوهم في بلدانهم.

 

 

ومثل شارع "الحمرا"، يُجافي النوم "شارع بلس"، تَنْغُلُ فيه الحركة، ولا تتعب، ولا تهدأ. يعرج بأنفة على سور "الجامعة الأمريكية"، ويروح يتشاوف على حاله، وعلى الشوارع المتفرعة عنه، بمطاعمه المتنافسة على الزبائن، تأكل معهم الخبز والملح، وتطعمهم من كل مطابخ العالم: Bliss House يناطح Roadster  وأقدم الاثنين Uncle Sam، وإن كنت تريد أن تشاهد أحدث الأفلام الغربية، ما لك إلا صالة سينما "أديسون"، التي تتباهى بأنها تعرض في الوقت نفسه، ما يُعرض في صالات أوروبا. و... يبقى مطعم "فيصل"، فيصل المطاعم، وكل عَبَق التاريخ فيه.

 

 

لم يكن توفيق فيصل، يعرف أن المطعم الذي فتح أبوابه في الثلاثينات، ليطعم طلاب الجامعة، ستولد فيه أفكار وعقائد سياسية، ستغير مجرى تاريخ المنطقة.

 

 

لمّا دخل الشاب الأسمر الملتحي، انطون سعادة، أستاذ اللغة الألمانية في الجامعة، وإنتبذ ركناً قصياً في المطعم، وتكوم حوله المثقفون، يسمعون أحاديثه، وصاروا يتنادوا للقاء في "فيصل"، كان يبشر بإحياء "القومية السورية"، وجمع شتات الأمة السورية في "الهلال الخصيب": لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين، العراق، وقبرص، نجمة الهلال ذاك، لتكون تلك اللقاءات في "فيصل"و نواة تأسيس "الحزب السوري القومي الاجتماعي". والى طاولة أخرى كان يجلس المفكر والدبلوماسي السوري الدكتور قسطنطين زريق، ومن حوله وحواليه، مريدون منضوون في جمعية "العروة الوثقى" التي كان يرعاها، وينمي في المنضوين تحت لوائها الفكر القومي العربي، المناهض للفكر القومي السوري،  ولطروحات أنطون سعادة، مؤسس وزعيم "الحزب السوري القومي الاجتماعي".

 

 

 

 

 

 

وفي سنة 1948، كان من بين مريدي قسطنطين زريق، طالب الطب الفلسطيني جورج حبش، الذي تأثر بما كان المفكر السوري ينظر له ويدعو إليه. فلم يمض كثير وقت، حتى إنفصل جورج حبش عن "العروة الوثقى"، وأسس مع ثلاثة من رفاقه: وديع حداد، أحمد الخطيب ومحمد الهندي، "حركة القوميين العرب"، التي كانت نواة إطلاق" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" سنة 1967.

 

 

و مثلما كان مطعم ومقهى La Closerie des Lilas في "بولفار مونبارناس" الباريسي، ملتقى أوسكار وايلد، إميل زولا، بول سيزانو وبول فيرلين، وكما Les Deux Magots في Saint Germain des Prés حيث كان يجلس جان- بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وألبير كامو، وإرنست همنيغواي، وبابلو بيكاسو، وشو إن لاي... كان مطعم "فيصل" البيروتي، يجمع تحت سقفه الشعراء والأدباء والقصاصين، وفيه نُظمت أحلى قصائد سعيد عقل، وعمر أبو ريشة، ويوسف الخال، وخليل حاوي، وتناطحت آراء، وتشابكت نظريات،  وتعارضت أفكار النقاد وطارت شراراتها الى أعمدة الجرائد والمجلات.

 

 

بعض الكلام يبهت حبره، ويذهب في الريح، أما الكلام عن "مطعم فيصل"،  فهو بعض من تاريخ، فمنه تُؤرّخ حوادث،   وإليه تعود ذكريات، ليس أحلى من عَدِّها، والعَدُّ يطول.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز