عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مدرسة الجواسيس 

مدرسة الجواسيس 

كان لبنان الأنموذج الفرد في العالم العربي, مزيج من الثقافتين العربية والغربية، المدارس فيه على تعددها, أمريكية و فرنسية تُدرّس اللغة العربية وتاريخ العرب, والمدارس الوطنية تُدّرس الإنجليزية و الفرنسية واللاتينية، وبيروت لا ترد بابها لكل من طَرَقه, أوروبيون, أمريكيون, أفارقة وأسيويين, فتسمع في شوارعها وفي مقاهي أرصفتها كل لغات الأرض، مسيحيون، مسلمون، يهود, يتساكنون ويتعايشون في نظام طائفي يمثل ثمانية عشر طائفة, فكان من الطبيعي أن يتزاوج العديد منهم، وأن يتشاركوا في السراء و الضراء، فإذا الحياة حياة مثالية، غنية بالطاقة والحيوية. 



أتذكر آخر ليلة رأس السنة والجميع يودع عاماً ويستقبل عاماً جديداً  1975 بقبعات ورقية على رؤوسهم، حفلات أنيقة و فخمة خلف الأبواب المغلقة فى المنازل و القصور والنوادي الليلية، جمهورها ضاحك فرح.     

 

ولكنني شعرت بخوف على هذا البلد الجميل الذي كان يراهن على جماله الطبيعي بغابات أشجار الأَرز والصنوبر و ثماره، فهو قطعة من الجنة كما غنّاه وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما عالأرض"، وتغنى به جبران خليل جبران "لو لم يكن لبنان وطني لاخترته وطناً لي" .. والبلد المُلهِم الذي يوحي بالرخاء الإنساني حولوه فجأة إلى حزمة مفخخة، بلد كان يحلم بمستقبل يقوم على محاولة نزع مخالب الطائفية، كان المشروع الإسرائيلي الهادف لتحطيم "الأنموذج اللبناني" الذي تحدث عنه الرئيس سليمان فرنجية أمام الأمم المتحدة عام 1974 لحلّ القضية الفلسطينية، من خلال دولة فلسطينية ديموقراطية تضمّ اليهود و المسلمين و المسيحيين, على شاكلة "الأنموذج اللبناني" القائم على التعددية, هو العامل الأهم في الحرب اللبنانية.

 

فجأة, هجره زواره و بعض أهله, كأنّي بهم وهم يحزمون حقائبهم،  يرددون مع فيروز " أنا صار لازم  ودعكن". لبنان الذي كانت مصر تدير منظومتها الإعلامية الإقليمية، كما أدارت الديبلوماسية المصرية الصراع الدولي حول حلف بغداد، فيها إرث عشرات المعارك السياسية، كما كان لبنان أحد أهم المراكز المصرفية في  العالم, فانفرطت منظومته فى وقت كانت تصاغ فيه هويات و أيديولوجيات أفادت دولاً عديدة.

 

تغيّر لبنان فجأة و غابت كل المتع, وحل الضيق والقلق محل السعادة و البهجة، مرّت أربعة أشهر منذ احتفالية رأس السنة الجديدة، ودعت بيروت فرحتها. 

 

استيقظت بيروت في منتصف  ليل الثالث عشر من إبريل (نيسان) 1975 على أصوات المدافع, أغلقنا مداخل البيوت، ننظر من النوافذ، ظلام تقطعه شرارات طلقات القنابل، تتساقط القذائف من دون هوادة أو تمييز علي المساكن, رصاص يأتي من حيث لا ندري في كل مكان على أي شئ يتحرك, ومن دون تحذير، احتميت أنا وأسرتي خلف الجدران, هرع كثيرون إلى الملاجىء، صرخات الأطفال والنساء تعلو, صراخ غير طبيعي وبكاء ونحيب.. ومع إشراقة صباح اليوم التالي توقف كل شئ, و ازدحمت الطرقات لشراء كل ما تحتاجه البيوت من مواد غذائية, خوفاً مما قد يحدث في الليالي المقبلة.

 

نزلت إلي الطريق مع من نزلوا لشراء احتياجات أسرتي من محل سمانة "بقالة" القريب من البيت, وكان مواجهاً لمسجد قريطم، ولاحظت في داخله ثلاثة مسلحين، علمت أنهم تابعين لحركة "أمل"، وقتها لم تكنمجهزة عسكرياً, وتضم عدداً قليلاً من المتطوعين.

 

يبدأ القصف ليلاً ويتوقف في الصباح، قبل أن تسوء الأوضاع مع استخدام الصواريخ وأحدث أنواع الأسلحة المتطورة, وظهر القناصة وإندلعت الحرائق, ونشأت الحواجز الثابتة و الأخرى "الطيارة" التي كانت تظهر في الشوارع, تخطف و"تقتل على الهوية"، وتزايدت التنظيمات والميليشيات المتناحرة, وفي وقت بلغ عددها خمسين تنظيماً.

 

و قد تبدى لي بأن ما كان يجري ليس خلافاً مسلحاً, أو إن شئت حربا أهلية, تنتهي باتفاق اللبنانيين فيما بينهم, فلقد كانت أزمة لبنان في ذلك العام مزيجاً من عوامل مركّبة داخلية و خارجية, تحرّكت معاً لتشعل أتون الحرب و الصراع المسلّح، كما في حرب الطائفتين المارونية والدرزية عام 1860 التي نشبت بتشجيع وتسليح أجنبي فرنسي وبريطاني، وفى عام 1958 شهد لبنان حوادث دامية كانت مزيجاً من عناصر أزمة داخلية إلى جانب تحريك خارجي، حيث بدأت بتأييد الرئيس كميل شمعون لحلف بغداد، ثم "لمبدأ أيزنهاور"، وتفجرت تلك الحوادث بعد احتدام الصراع الأمريكي مع مصر في زمن جمال عبد الناصر.

 

استمر القصف المدفعي كل ليلة, صواريخ "غراد" تلعلع بين الأبنية, فأيقنت أن لبنان سقط في الهاوية التي حُفرت له، وبقي يصارع للبقاء طوال خمسة عشر عاماً في أقذر أنواع الحروب، بدأت بحرب اتهامات متبادلة بين الجانب المسيحي والفريق الإسلامي والفلسطيني، فتدخلت العديد من الدول و العناصر المساندة. 

 

تدخلت واشنطن على يد هنري كسينجر، وبالطبع حليفتها إسرائيل، وتدخلت فلسطين ممثلة بمنظمة "فتح" والفصائل الأخرى التي وجدت لها ملجأ في لبنان بعد "أيلول الأسود" في الأردن, لعبت جميع الجهات والأجهزة  الاستخباراتية دوراً حقيراً  في نزع السلام والمحبة من لبنان. 

 

من عاش مثلي في لبنان في السبعينات من القرن العشرين، كان لا بد له أن يسمع اسم "مدرسة شملان" البريطانية, مرادفاً لـ "وكر الجواسيس", فمنها تَخرّج إلى العالم العربي رجال مخابرات أدّوا أدواراً سياسية واستخباراتية في المنطقة، و"شملان" قرية وديعة وجميلة من قرى جبل لبنان، أغلب سكانها من الموارنة، تبعد عن بيروت نحو 25 كيلومتراً وتقع على تلّة مرتفعة تطل على العاصمة بيروت من جهة منطقة الرملة البيضاء، ومطار بيروت الدولي الذي أُطلق عليه مطار رفيق الحريري الدولي في منتصف التسعينيات من القرن العشرين, وتحوطها قرى متعددة يسكنها الدروز.

 

و لقد ظلت هذه "التهمة" أو بمعني أوضح "الشبهة" و "الصفة" ملازمة لمدرسة شملان, حتى تم إغلاق أبوابها لأول مرة خلال سنوات الإحتراب الداخلي.

 

والغريب أن هذه المدرسة أُسست في القدس، وكان مدير الدراسات الأول فيها  أبا إيبان, وزير الخارجية الإسرائيلية الأسبق، والمعلومة نقلاً عن كتاب A Nest of Spies "عش الجواسيس" الذي كتبه آخر مدير للمدرسة ليزلي ماكلوكلين Leslie McLoughlin  ويحكي حكاية  تلك المدرسة، والهدف من إنشائها يعود إلى أنه كان محتملاً أن يشق الجنرال الألماني روِميل طريقه للقاهرة، مما يستدعي وجود موظفين بريطانيين ذوي معرفة باللغة العربية للعمل ضد المحور، و حين هُزم روميل جرى تعديل المفهوم المتصل بوجود ضباط استخبارات ذوي معرفة بالعربية ليناسب الاحتياجات المدنية والعسكرية.

 

في  بداية الكتاب أشار إلى وجود جواسيس بين الطلاب منهم الألماني والكندي والأمريكي والدبلوماسي الكوبي خوسي كوريس .

 

كما كان الجاسوس البريطاني جورج بلايك  George Blake الهولندي الأصل، واحداً من طلاب معهد شملان، وقد قضي وقتاً ممتعاً فى بيروت بقلب وكر الجواسيس مع عميل مزدوج آخر لصالح السوفييت هو كيم فيلبي، في وقت اعتبرت فيه لبنان مركزا للاستخبارات السرية فى المنطقة. 

 

توفى جورج بلايك سنة 2020 عن 98 عاماً فى موسكو، بعد أن تجسس فى الخمسينيات لصالح الاتحاد السوفييتي, على الرغم من كونه ينتمي إلى جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، وأُلقي القبض عليه عام 1961 أثناء إقامته فى لبنان، ليقضي 42 عاماً بالسجن في بريطانيا. 

 

وسط ارهاصات السياسة وتدفق المعلومات واحتمدام الحوادث, تصادف أشخاصاً من الصعب تحديد دورهم و انتماءاتهم فى زمان الحيرة وسيادة الشك وفناء اليقين, حيث لا يكون حكمك على الآخرين صائباً.. التقيت بأشخاص منهم من يصادقك و يتقرب إليك, ويُبدي محبته الغامرة من أجل كتابة التقارير, ومنهم من يتحرك فى بيئة الهدف بحرية لمراقبة وتعقب هدفه الذي يريد لاستدراجه لجلب البيانات والمعلومات المطلوبة منه ! 

 

واحد من "كُتّاب التقارير" هؤلاء كان كاتباً مسرحياً, غمرني الرجل بمحبة لم ألمس عمري بمثلها من أحد, راح يكتب كل ما حلى له وطاب من شطحات الخيال في تقارير.

 

وسط هذه التغيرات التي كانت تحدث في لبنان وكشاهد لهذه المرحلة، جمعتني المصادفة بواحد من هؤلاء, واللقاء تم بيني و بين صحافي سوري تعرفت عليه من خلال الصديق والزميل السفير السابق لسوريا غالب كيّالي, أثناء عملي فى مجلة "بيروت المساء", وكان كيّالي كاتبا فيها، كان الصحافى السورى شخصية غريبة الأطوار، قدّم نفسه لى كصحافي معروف و مقيمً في لبنان, كاتب حر, يكتب وينشر في الصحف كمعارض لنظام حافظ الأسد، ومستشارا إعلاميا لخادم الحرمين حينئذ، دعاني إلى منزله في برمانا، حيث تعرفت إلى زوجته وبناته الثلاث وإبنه فريد.

 

وتمر بي الأيام فأعود التقيه فى مكتبه ببناية "إلدورادو" في شارع الحمرا, ليفتح أمامي حقيبته "السامسونايت" بقصد أو غير قصد ليُخرج بعض الأوراق، ولأول مرة في حياتي تقع عيناي علي مشهد أشبه بالأفلام السينمائية, فالحقيبة كانت مُتخمة برُزم من الدولارات.. دعوت له بالرزق الحلال, وتركته مع دولاراته.

 

بعدها علمت من كيّالي أنه أخذ عائلته وقرر السفر إلى الولايات المتحدة للعيش هناك قبل الحوادث الدامية بعام، وتمر أشهر ليتصل بي الصحافى السورى قبل الأحداث بستة أشهر, ليخبرني أنه حضر في زيارة للبنان ومقيم بفندق" نابليون" في شارع الحمرا.. قابلته من باب الفضول لأعلم سر سفره المفاجئ مع عائلته إلى الولايات المتحدة، كان في عجلة من أمره فهو على موعد مع ياسر عرفات (أبو عمار),  وجاءت إجابته عن تساؤلاتي بقوله: "البلد ده خلاص مابقاش منها فايدة"!

 

و نصحني بالعودة  إلى مصر من دون أن يفسر لى أي شئ، حاولت أن أربط المشاهد ببعضها منذ تعرفت عليه ووضع سيناريوهات فى محاولة لفهم الرجل و تصرفاته المريبة، إلا أن الأمر زاد من دهشتي, فالرجل يعلم بأشياء لا نعرفها.

 

التقيت به بعد سنوات في لندن، فاجأني بدخوله مكتبي في شارع "سان جيمس" في قلب لندن, عارضاً فكرة خبيثة ستجلب لي أموالاً كثيرة، وتتلخص في عشر ورقات لخص فيها فكرة كتاب ابتزازي ينوي نشره عن العائلة المالكة السعودية، والمطلوب أن أتصل بالملحق الصحافي السعودي في سفارتهم لدى لندن بصفتي حريصا على سمعة المملكة، فيغدقون عليّ من أموالهم نظير إخلاصي، وتنفذ له طلباته المادية فى الوقت ذاته.

 

بالطبع رفضت هذا العرض الدنيء, فغضب، واتجه بفكرته إلي شخص سوري الجنسية مثله يمارس الصحافة، وكان يصدر مجلة "سوراقيا"، والتي نشرت له مقالات عدّة، بعدها اشترى مجلة "المحرر" التي تصدر من باريس وكانت على شفا الإفلاس ومعروضة للبيع، وأصبح مالكاً لها .

 

عينة من الرجال التقيت بها فى بيروت قبل حربها الدامية المدمرة، ما هم إلا فقاعات تتطاير من منظومة استخباراتية عملت علي تحقيق هدف وحيد وهو "تحطيم لبنان" .  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز