
السِّــرُّ

قصة: أيمن عبد السميع
سمعت كأنما الريح تُصفر في الخارج، كانت الليلة صيفية، ونحن- أنا وزوجتي وأولادي- نائمون في البيت بالدور الأرضي، متحررون من معظم ملابسنا، الكل ينام تحت الشباك العالي المسيّج بأسياخ حديدية، وأنا بين اليقظة والنوم، أمدد ظهري مفكرًا في أمر جال بخاطري.
وفجأة أحسست بهمس في الخارج، ذلك لم يحرك ساكني في اللحظات الأولى، لكن انتباهي زاد وامتد، يبحث عن مصدر الهمس، كان صوتًا لتسلق على الجدار من الخارج، لحظات تمر، والقلق يطوقني في رجفة، عدلت ظهري، رحت أجيل ببصري، لمحت رأسًا يظهر ببطء، صمت، تحلَّب ريقي، وسقط فكي السفلي وتجمد لبرهة، وبعد لحظات كان الرأس قد وضح كاملًا جليًا، هو جارنا عينه، الشاب (الصايع)، صفوت غريب، يتلصص علينا، أو بالأحرى، يتلصص على زوجتي النائمة.. أسرعت بسحب (الكبرتاية) الزرقاء؛ لأستر عري ساق زوجتي، لمحت سحنته بوضوح، كأني أراه بعينين جاحظتين، وتلاقت عيناي بعينيه، هم الجلاميد القاسية تجتمع في قاعة مغلقة، يوشك الأمر أن يصل إلى درجة الاشتباك بالأيدي عبر الأسياخ الحديدية، لا أجد شعورًا يُقارب شعوري نحوه، إلا الكراهية والغيظ وحُرقة الدم، آثرت عدم الفضائح، ولم أتمتم إلا بكلمات قليلة خافتة، ظللت أنقل بصري في قلقٍ، تارة عليه وتارة على زوجتي النائمة في عمق شديد:

-انزل يا "....."، وابتعد أحسن ما أعملك جُرسة!
الحقيقة، أنَّ المشهد لم يتكرر مرة أخرى، لكن قلبي ظل جمرة نار موقدة، الملعون يتلصص على عِرضي وشرفي، خشيت الفضيحة والناس لا ترحم، تجعل من الحبة قُبة، ربما لا تجعل الموقف تلصصًا فقط، ربما وربما!
سكتُّ.. بلعت الأمر في غصة ومرارة، حتى زوجتي لم أذكر لها ما حدث؛ كي لا أسقط من نظرها.
مر عليّ شهرٌ كالدهر، كنت أمتطي شحوب الليل، وأداعب مواجع المجهول، خشيت أن (تُجبد) سيرة ما حدث على المقهى بين صفوت غريب ورفاقه، تباهيًا منه، وإلصاق العار بي؛ لصمتي وعجزي غير المُبرر لديهم.
وأنا لا زلت بين قلقي وحيرتي، وتفكيري الذي كاد أن يفتت رأسي قطعًا صغيرة، لكن صوت صراخ جاء من منزل قريب، قطع ألمي وتوجعي، انتفض جسمي وفتحت باب البيت مرتعدًا، وصرخت في جارتي التي "تولول":
-في إيه يا أم محمود؟!
قالت فزعة:
-بيقولوا صفوت ولد غريب مات، لدغه عقرب (مجنح).
تمتم لساني:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
بعد العصر تم الانتهاء من تحرير تصريح الدفن بمعرفة النيابة العامة، ذهبنا للمقابر؛ لدفن الميت. أهل البلدة يتزاحمون، ولا يكفون عن الهمهمة، كان بكاء والده يقطع نياط القلوب، وتراب المقابر الناعم قد عمس ملابسنا، كنت أفكر فأسمع لتفكيري صوتًا:
"لماذا سَكتُ على فعلة صفوت ولد غريب؟!".
الآن تأتيني الجرأة لطرح هذا السؤال على نفسي، أبصرت شجر المقابر معتمًا، كل شجرة تخبئ حكاية مضمرة في جذورها، يمشي الشجر على ظله، والنباتات الشيطانية ترميني بالشماتة والعجز، رحت أفتش عن شواهد موتى بلا حروب، كان العرق يتفصد من جبهتي، مسحت وجهي بمنديلي القماش الكاكي، اختفت الأصوات من حولي، غير أن صوت اللحَّاد هو الصوت الذي طن في رأسي عاليًا، كان جهوريًا، يأتي من أسفل هو نازل في المقبرة يسوي أرضية المدفن بملء مقطف من الرمل الناعم، صوته يطلب من المشيعين أن تنزل له الأمانة - يقصد جثة الميت - وهنا عاد صوت البكاء يعلو بشدة، لغط متداخل، مجمله، توصيل سلامات وطيبات لمن رحلوا من قبل، رأيت فسيح المقابر كصحراء لا نهاية لها.
لمَّا انقطع البكاء، صمتنا جميعًا نستمع لشيخ سبعيني يقرأ دعاء الميت، الجميع يؤمن خلفه، كانت الشمس تقترب من المغيب، ظلت خواطري مشدودة، لكن، بدا أنني سأنام وأحلم أحلامًا بهيجة، وعندما تم إغلاق قفل الباب الحديدي الخاص بالمقبرة، تأكدت أن مراسم الدفن قد انتهت، وهنا رحت أفتش ببصري عن المشيعين، لقد تقلص عددهم رويدًا رويدًا، حتى وقفت وحيدًا، نسيت نفسي أمام المقبرة، كان بصري معلقًا بباب المدفن، وبعد لحظات لا أعرف عددها، سمعت طرقًا من الداخل على الباب، تراجعت للخلف قليلًا، ولمَّا اشتد الطرق رجعت خطوات أخرى، وتجمد جسدي خلف شجرة الكافور القديمة، عيناي تنظران صوب الباب في قلق، ثم انخلع الباب ووقع على الأرض، فأصدر غبارًا صعد لأعلى، يمازح الظلمة القادمة.
ارتجفت أوصالي، تصاوير فجة جاءتني، شعرت ببرودة الجو، ورأيت الظلمة تتكاثف في حفرة المدفن، أحسست بهمس من الداخل، زادت رجفتي، الهمس يصحبه صوت تسلق، لحظات تمر، لمحت رأسًا يظهر ببطء، وبعد لحظات، كان الرأس الملفوف بقماش مبتل قد وضح جليًا، وراحت الأيدي تمزق الأربطة، ظهر الوجه بوضوح، هو بعينه، جارنا، الشاب الصايع، صفوت غريب، يتلصص عليَّ، كانت الريح المسمومة تهب صافرة خلال الفراغات، اقشعر جلدي، وأنا أنظر.
نفضت المنظر من رأسي، بعد سماعي صوت حارس المدافن ينادي عليَّ، وهو يحمل بيمينه (كلوب سبرتاية) يمزق ظلمة المقابر، سمعته يناديني باسمي بصوته الحنون الذي يقترب من البُكاء:
-أستاذ حمادة، هيا يا ابني، كل المشيعين عادوا لدورهم إلا أنت.
نظرت إليه دون أن تنطق شفتاي بكلمة، طأطأت رأسي، ربت الحارس بيساره على كتفي، وعاد صوته الدافئ يكلمني:
-يا ابني، أعرف أن صفوت كان تلميذًا لك في المرحلة الابتدائية، فراقه لا يعز عليك وحدك.. لكنها إرادة الله.
تحركت قليلًا، ثم انتبهت إلى ضوء (الكلوب)، كان يصافح باب المدفن الواقف كتمثال حجري قديم، اختلست النظرات، ثم انفرجت أساريري في الظلمة، وأنا أغادر المقبرة خلف الحارس، كان النور يهز الظلمة أمامي، أحسست – الآن- أنني لم أخرج من بيتي لدفن جسد صفوت، بل لدفن السر الفاضح الذي أوجعني كثيرًا في الأيام الماضية، وربما التصق بي كوصمة العار، لو ظل صفوت غريب على قيد الحياة.