عاجل
الخميس 2 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

النسيان

رسم: سوزى شكرى
رسم: سوزى شكرى

لست أفهم لماذا يبكون.. أنا بخير تمامًا؛ بل أشد صحة منهم جميعًا..جيلهم أشد حساسيّة من الأواعى الصينية.. وهذا الطبيب المتظاهر بالخبرة الّتى لم تتلطخ ميدعته بنقطة واحدة من دم أو دواء الذي ينزع نظارته من عينيه ليؤكد لى التشخيص بأسف مصطنع: 



-" للأسف يا سيّد أحمد.. لقد ثبتت إصابتك بالزهايمر". 

ترتمى ابنتى "ريم" على كتفى باكية فأدفعها بقسوة.. أنهض من كرسيّى المتنقل وأهمّ بالصراخ أنّنى بخير.. رُغم الشيب الّذى يأكل شعرى والبقع التي تظهر على جلدى المجعّد كالبرك بعد مطر غزير.. أنا بخير.. لن يهزمني هذا المرض..

هل يظن أنه سيخيفنى بتشخيصه؟ هراء! ليس سوى مرض يمكننى التحكم فيه.. العقل فوق الجسد.. لست أحمقَ لتنطلى علىّ خدعة الأدوية.. سأتعلم كيف أعيش مع هذا التغيير.. لا أحتاج شفقة أحد..

"سارة" ابنتى تلح علىّ بعد خروجنا للانظمام لحصص العلاج والتعايش.. لا تتعبى نفسك..أنا فى الثمانين.. لا يوجد تعايش أو شىء يمكننى أن يعلمنى إياه أحد بعد الذي علّمتنى إياه الحياة.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

الطبيب مخرّف كما توقعت.. مضى شهران وأجد نفسى قادرًا على تذكر أحداث احتجاجات حرب الاستقلال وانتفاضة الخبز وو الاضرابات والثورة.. أرويها لأحفادى بفخر ووجوههم تشعّ بسعادة من يتكلم وليده لأول مرة.. أعيد الحكايات وأكرّرها.. وبينما أنا مندمج مع استحضار مشادّة بينى وبين جندى فرنسى كاد يردينى بسلاحه إذ أوقع الملعقة من يدى.. ألتقطها بسرعة متجاهلا لمحة الخوف الخاطفة فى أعينهم الّتى سرعان ما انقشعت كسحاب عابر عندما عدت لحديثى.. ملصقًا ذراعى لجانب جسدى كى لا يلاحظوا ارتعاشتها..

عند الغداء تطلب منّى حفيدتى أن أروى لها قصة علاء الدين للمرة المليون..أبتسم وأحتضنها مستسلما وإياها لقيلولة على كرسينا الهزاز كأننا نخلق عالمًا صغيرًا خاصّا بنا.. أبدأ برواية القصة وأطالع بحنان وجهها الصغير المسترخى الذي عبس فجأة وهى تخبرنى أن الأسماء التي أقولها خاطئة.. وأننى بدأت القصة من وسطها.. ثم تتركنى وتذهب..تاركة إياى فى ذهول ورهبة تشبه الرعب.. أحاول نسيان الأمر.. ذهبت لمكتبة البيت باحثا عن القصة لأقرأها بنفسى... ثمّ أغلقتها من الصفحة الثانية..

 

لا تبدأ معى.. الرعشة من متطلبات الكبر على كل حال.. لست متصابيًا.. أنا أدرك أننى لست شابًا.. لكننى ما زلت محتفظا بصحتى…

مازال الضغط قائمًا علىّ للدخول فى حصص العلاج الدورية.. أذعنت بصعوبة لأرتاح من الثرثرة المتكررة.. لكن الحصص تقتل فكرى أسرع من الزهايمر..كانوا يعاملوننى كطفل بدلاً من شيخ واعٍ.. والسكرتيرة الحمقاء تظننى جاهلاً..عدت بعد الموعد الأول مقسمًا على عدم الرجوع ثانية.. عضّت "سارة" على نواجذها وتركتنى مستسلمة..

على كلّ.. لقد بدأ أبنائى يعاملوننى بشىء من الاحتراس كأننى تحفة أثرية يجب الحفاظ عليها.. وهو ما أبغضه من أعماق نفسى.. أحاول أن أصر أننى على ما يرام.. أن أسقى الحديقة وألاعب أحفادى.. لكن التعب يقوّس ظهرى بسرعة.. ويبدأ نوع من التباطؤ والدهش قبل كل مهمة.. ويغلّف قلبى خوف لأول مرة أحاول نزعه بما تبقّى لى من شجاعة..

لقد بدأت تضيع عنّى التفاصيل البعيدة..وجه المرحومة زوجتى.. الذي كنت أحفظه كقصيدة غابرة.. بدأ يغوص فى صحراء النسيان كدابة وقعت فى رمال متحركة.. أسماء رفاقى فى الجامعة.. أمّى.. وبعض من أسماء أبنائى.. ودهشى بدأ يتعاظم.. البارحة سمعت "ريم" تهمس بضرورة مراقبتى طول اليوم بعد أن وجدتنى صافنًا فى الحديقة والخرطوم فى يدى يغرق شجرة الياسمين.. أدير رأسى.. فى المرآة أرى وجهى متغضنا وغائبًا كوجه لا أعرفه..

 

نسيت ماذا كنت سأقول... 

الزمن صار سائلاً كالماء وكالحًا كالقيظ.. بلا بداية ولا نهاية.. خط طويل بلا ملامح.. تشرق الشمس علىّ لتغرب بعد ساعات فى حلقة مفرغة لا معنى لها.. أهذا هو الزمن؟ 

مازلت أقدر على المشى.. والكلام.. مازلت غير عاجز بالمعنى الحَرفى.. هناك عينان على الأقل تتبعان كل خطوة أتبعها فى كل يوم.. لكننى لم أعد آبه أو أخاف كما فى السابق.. 

تلاشت تلك المشاعر.. تبخرت كنوبة غضب عابرة.. راقبونى كما شئتم.. تألموا من ثرثرتى التي بدأت تفقد نسقها ومعناها كرسالة انتحار تركها مريض انفصام.. لا يهمنى.. 

الطعام يصلنى.. وأبنائى حولى كالسّوار حول المعصم كل ليلة يسمرون بجوارى.. ينصتون لكلامى البائد الذي أصبح لازمة المجلس بتهذيب زائد وشفقة متناقصة.. وحتى فى انهيارى هذا.. رأيت بعمق من خلال أعينهم التي فضحتهم أننى صرت عبئًا أخيرًا..

لكن هذه المرة ليس باستطاعتى عمل شىء.. لا أختلف كثيرًا عن مَيّت ينتظر التكفين.. فليفعلوا بى ما شاءوا... أبسط يدى وأقبضها..أضحك ساخرًا من سخافة الحركة.. حفيدتى الصغرَى "سمر" تقلدنى بابتسامة وتساؤل فى عينيها الصغيرتين..أكرّر الحركة مجدّدا وأضحك.. ثم أسرح فى التفكير..لا شىء أمامى إلا حائط وصورة قديمة نسيت لمن يعود محتواها..

الوشوشة تتزايد..الخطط بشأنى تبنى وتهدم..لكنى لا أبالى.. مادام الطعام يصلنى.  و"سارة" تذكِّرُنى متى أشرب.. فسأكون بأحسن حال.. إنها تحضر حقيبة الآن.. تدخل حجرتى وتخرج.. تنظر إلىّ وتكفكف دموعها.. ابنتها تتبعها كالظل.. أبسط يدى وأقبضها.. وأضحك..

هل طلع الصباح؟ أمْ تراه الليل؟ أنظر خارجًا لثوانٍ أو ساعات.. ثم أتأمل يدى.. وفى ثانية فاصلة من الرعب أنسَى أنها لى.. وأجهش باكيًا.. 

 

أين أنا؟ مَن أنتم؟

  هذا مكان مختلف على ما أعتقد.. هل غيّروا المفارش؟ لماذا كل شىء أبيض؟ وأى سائل تسكبه تلك السيدة فى قدحى؟ أين زوجتى؟ ماذا تفعلون بى؟ هل... هل هذا مستشفى؟ إنها تمسك يدى.. لم تبدُ منزعجة؟ نفس السائل الذي فى القدح يتدفق من عينيها؟ لماذا تصرخ؟ ماذا تريد منّى؟ "أنا ريم"؟ من تكون ريم؟ ابنتى؟ ليس لدى من أبناء سوى الرضيعة السارة التي تركتها فى بيتها مع أمّها! ماهذه! إبرة؟ ستدخيلنها فى؟ مَن طلب منك ذلك؟ أبعدى يدك عنّى فورًا وإلا طلبت الشرطة! دوار يعترينى فجأة.. كل شىء مؤلم.. الصراخ يتزايد..  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز