عاجل
الخميس 2 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

العجوز والكلب الوفى

رسم: عبدالمنعم البطاوى
رسم: عبدالمنعم البطاوى

كانَ بيتُ جدّى فسيحًا، يسع العديدَ من البشرِ، تتلاقى فيه الأجيالُ، وتتجمّعُ فيه الأُسرُ، يقطنُ فيه أبى وأعْمَامِى الأربعة وزوجاتهم وأبناؤهم، يترأسُ ذلك الحشد الكبير جدّى الذي كان مشغولًا طوال الوقتِ بتجارتِه، تُعينه على ذلك المَنصب جدَّتى  تلك المرأة الحازمة، كانتـ فى الحقيقةِـ طيبةَ القلبِ، غير أنَّها كانت تُظهرُ العكسَ، ربما منصبها وسط تلك العائلة الممتدة كان يتطلب ذلك، تُدير هذا البيت الكبير وتقضى بين نسائه بمهارةٍ يحسدنها عليها جاراتها العجائز، حين يأتين لزيارتها ترى الغيرة تملأ قلوبهن وعيونهن تتساءل: كيف استطاعت تلك العجوز أن تجمع أبناءهاـ الذين أصبحوا رجالًا وأنجبوا الطفل والاثنين والثلاثةـ حولها دون سخطٍ أو خلافات بين زوجات الأبناء، كتلك التي تملأ البيوت؟!



كانت جدّتى تضيق بانشغال جدّى بالتِّجارة، ترى أن السنّ قد تقدّمتْ به، ويجب عليه أن يترك تلك المَهمَّة لأبنائه، غير أن جدّىـ الرّجل الشديد العنيدـ لم يعترف بذلك يومًا، وقد كان مُحقًا، فهو رجل قوى ترى فيهـ على كبر سنهـ من نشاط الشباب وحيويته، ما لا تراه فى شباب هذه الأيام.

كما أن لدى جدتى رغبة تزعجُ جدّى وتثيرُ غضبَه، طالما تنازعا بسببها، وهى تربية الكلاب، وجود الكلب فى البيت كان مصدرًا كافيًا لسعادتها، بينما لا يطيق جدّى ذلك ولا يقبله، فكلما اشترتْ جدّتى كلبًا صغيرًا لتربيته، غضب جدّى وتخلّص منه فى اليومِ التالى. حتى عزمت ذات يوم على أن تفعل ذلك دون علمه، ابتاعت واحدًا ووضعته فى غرفة متطرفة فى حوش البيت، ولمّا كان جدّى كثير الانشغالِ، قليل التواجد فى البيتِ، نجحت خُطَّتها، واستمر وجود الكلبِ فى البيتِ شهرين كامِلين دون أن يعلم جدّى عنه شيئًا.

كانت فرحة جدّتى بذلك الكائن الصغير تدعو للدهشة، تتعامل مع ذلك الكلب كالابن الرضيع، تضع له الطعام بكرم الأمّ الحنون حين تُعدُّ أصناف الطعام لابنها العائد من  سفر. بينما زوجات أبنائها لا يروقهنّ ذلك كثيرًا، اهتمام جدّتى بالكلب يبدو لهن شيئًا غريبًا مستنكرًا، لكن ليس لهنّ من الأمر شىء.

 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

وجاء اليوم الذي كانت جدّتى تعلم يقينًا أنه آتٍ لا محالة، يوم أن علم جدّى بوجود ذلك الكائن المنبوذ بالنسبة له، هاج وماج وصمّم على طرده من الدار، وقد فعل،  فحدث بعدها شىء تعجَّبنا له كثيرًا.

فى الصباح حمل أخى الكلبَ فى جِوالـ استجابة لأمر جدى ـ ورماه بعيدًا عن البيتِ ثم رجع، فإذا بنا فى المساءِ نسمع صوت شىءٍ يداعب باب البيت، ثم بدا وكأنه يحزّه حزّا، كان ذلك كلب الجدّة قد عاد وحده إلى البيت بعد أن طُرِدَ صباحًا.

ثار جدّى، ولم يلتفت إلى لهفةِ زوجهِ وفرحتها بعودةِ ضيفها المطرود، كمن فَرِحت بعودةِ حبيبٍ بعد طول غياب؛ بل صمّم على التخلصِ منه، ولكن هذه المرّة سيفعل ذلك بنفسه.

فى الصباحِ، كان جدّى ذاهبًا إلى السوق، فاختار طريقًا غير تلك التي اعتادها كل أسبوع؛ لينفّذ خُطّته فى التخلصِ من ذلك المتطفّل، فمرّ بدابته عبر طريقٍ جبلى وانتظر حتى ابتعد عن البيت مسافة كافية، فرمى الكلب، ثم أكمل طريقه نحو السوق.

غير أن ما حدث فى المرّة الأولى تكرّر ثانية، وعاد الكلب الذي أضحَى يحفظ طريق البيت جيدًا، كمغترب لم ينسَ موطنه.

وكرّر جدّى ما فعله مرة ومرة، وفى كل مرة  .. يعود الكلبُ إلى البيتِ، وتفرح جدّتى بعودته، ويصرّ جدّى على طرده، حتى كانت آخر مرة حاول جدّى ذلك، عاد الكلب فى تلك المرة، ثار جدّى وغَضِبَ كما يفعل فى كل مرة، وتوعّد بطرده، إلا أنه انشغل عن ذلك فمرّ يوم .. ويوم .. وأسبوع وشهر، وفى كل يوم يقول جدّى أنه سيتخلص منه، مرت الأيام، ونسى جدّى أمر الكلب، ولم يعد يلتفت إليه، فسعدت جدتى بذلك كثيرًا.

عاش الكلبُ فى البيتِ زمنًا يلقى من اهتمام جدّتى ورعايتها ما لا يلقاه أحد، فاعتادَ الأحفادُ على اللّعبِ معه، حتى صار مُسَلّمًا بوجوده، ولقد كان ذلك الكلب الأبيض ذو النقط السوداء كلبًا عاديًا، كتلك التي تملأ الشوارع، غير أن اهتمام الجدة وعنايتها به إلى جانب لونه الجميل المميز الذي جعله قريب الشبه بتلك الكلاب التي يُربِّيها الأثرياء المُتْرفون زاد من جاذبيته، فأضحى محبّبًا لنا لا يصرفنا عنه سوى صراخ الأمهات وتحذيرهن، كذلك كان زوّار بيتنا الكبير يُطِيلون النظر إليه خلسة أو جهرة، وهو يتمسّح فى قدمى سيدته العجوز الذي كان كثير السيرِ خلفهاـ حتى أصبح كلٌّ منهما مرتبطًا أمام الناسِ بالآخرـ إلا فى وجود جدى، فقد كانت جدتى ـ الزوجة العاقلة الذكية ـ تتَّقى غضبه بأن تقلِّلَ من رؤيته للكلب قدر المستطاع. 

مَرِضت جدتى ـ ذات يومٍ ـ فأحضرنا الطبيبَ الذي أمر بتوفير الرَّاحة التَّامة لها وعدم إرهاقها، فلم تعد تقوى على إدارة شؤون البيت الكبير، كذلك دبَّ الخلاف بين السلائف، فقد مَرِضَت من كانت تحكمهن بحكمتها، فترى العجائز حين يأتين لعيادتها، يمصصن الشفاه أسفًا على حال تلك العجوز التي لم تعد كسابق عهدها!

كنَّا نسمعُ نباحَ الكلبِ فى غرفتِه طوال فترة مرض جدّتى، لا يفترُعن ذلك كمن يشكو غياب أليفه الذي غابَ فجأة دون أن يُبدى أسبابًا واضحةً، رُغْمَ أنَّنا نضع له الطّعام والشّراب غير أنه لا يكفّ عن نباحه ليل نهار كأنّه يقول: ليس هذا كل ما يعنينى. 

أذكرُ مرة أنَّنِى أطلقتُ سَراحه، وأخرجته من غرفته الكائنة فى حوش البيت، فأخذ يجوبُ المكانَ كمن يبحثُ عن هدفٍ بعينه، حتى وصل إلى غرفة جدتى التي كانت تجلس على الكرسى، تتناول طعامًا أعدَّته أمّى، فارْتَمى الكلب تحت قدميها، يتمسّح فيهما بشوقٍ كحبيب عائد لتوّه من سفر طويل..! ثم رأيناه بعد ذلك باسطًا ذراعيه أمام غرفتِها، كمن يحرسُ كنزًا يخشى ضياعه. ويراه جدّى فيكظمُ غيظَه مراعاة لحالِ جدّتى المريضة.

تركَ الكلبُ بيتناـ ذات يوم ـ باختياره ودون أن يرسله أحد، غير أنّ ذهابه هذه المرة كان بلا عودة، لقد ماتَتْ مَنْ كانت تعتنى به، مَنْ كان يعود لأجلها مرة ومرة، فلم يعد أحدٌ يعطيهِ مثل اهتمامها، أو يحْنو عليه كما كانت تفعل، فأمّى وزوجات أعمامى بالكاد يدبّرن شؤون البيتِ؛ بل كان ذلك يُعْجِزهن أحيانًا عندما ينخَرِطْن فى الخلافاتِ والمشاحناتِ التي طَفتْ واضحة على السّطحِ بعد رحيلِ جدّتى.

ذلك البيت الكبير الذي كانت تُدِيرُه تلك العجوز، تعجزُ اليوم عن إدارته خَمسُ زوجاتٍ فى مقتبلِ العمرِ..!>            

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز