عاجل
الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فَرَجٌ بعد ضَائِقَةٍ في غربةٍ لا تَرْحَمُ

الغربة الثانية 10

فَرَجٌ بعد ضَائِقَةٍ في غربةٍ لا تَرْحَمُ

بُهِتَ لمّا رآني.. ما كان عبد العزيز خميس يتوقع أنني سأتعجل في المجيء إلى القاهرة وطلب مقابلته، فلقد كان يُمَنّي النفس كما عرفت بعدما انكشف المستور عن كل خبيئة، ألا أمتثل لما طلب في رسالته "التهديدية"، فيتخلص بذلك من واحد آخر من "جماعة الشرقاوي".



 

العينان في وجه الرجل غريبتان، إحداهما أكثر حدة وتحديقاً.. دار بهما على وجهي، تملاني برهات، أومأ، جلست قبالته، تنحنح، وأحكم قعدته.. تعثرت أصابعه بحركاتها، وهو يلملم ورقاً تبعثر على الطاولة أمامه. 

 

غشى الجلسة صمت بليد قطعته، وأتيت الأمر من مأتاه، واخترت كلماتي بتأنٍ، وأنا أُفهمه بحسن اللباقة بأنني هنا، ليس للدفاع عن وضعي في المؤسسة، إنما عن "الفكرة"، فكرة تواجد "روزاليوسف" في أوروبا انطلاقاً من لندن.

 

فبعد حريق بيروت التي كانت تتمتع بحرية النشر والتعبير، تحاول لندن أن تكون بديلها، يسعفها في ذلك بدء توافد العرب إليها، مثقفين وكتاباً وصحفيين فقدوا الملاذ الأمين الآمن في لبنان. 

 

كان عبد العزيز خميس وهو يسمعني يتلهى بهزهزة قلم الحبر بأصابعه بحركة عصبية، زَمَّ عينيه، يُطل منهما إنسان شرس، ألبس وجههُ نظرة مشحونة باللامبالاة، حاولت ألا أضَيّع توازن أفكاري، ورحت أُعَدِّد لهُ إنجازات مكتب لندن، وما قدّمه للمجلة والدار، إن على صعيد العلاقات العامة، أم الإعلان التجاري، وكيف أنها بدأت تأخذ مكاناً في الإعلام العالمي.. كل ذلك، إضافة إلى ما يمكن أن تؤديه للوافدين والمغتربين العرب في بريطانيا، ناهيك عن البلدان الأوروبية الأخرى.

 

باغته كلامي، فأجفلَ وتَمَلْمَلَ، وامتقع وجهه، امتص شفته السفلى مرات، ثم تسرَّبَت على شفتيه ضحكة .. حك جلدة رأسه كأنه يخلط الكلام فيه، دارت عينا عبد العزيز خميس في محجريهما دورة سريعة، كَتَمَ غيظاً بدأ يتسرَّبُ إلى ملامح وجهه، أحسست بلسع نظراته على وجهي، وأدركتُ أنني استمكنتُ منهُ.

 

حَرَّكَ  شدقيه بحركة غريبة، فتسربت كلمات ملتوية، راح يعلكها علكاً، مغاصباً نبراته، ولا يعرف أن يبروز كل كلمة، قبل أن يخرجها من حبس شفتيه.

 

فكان كلامه خارج السياق، وكأنه تعمد تجاهل كل ما قلته وعرضته، فراح يشرح ويزيد، وتتضخم عروق رقبته، وهو يتكلم وينفعل، ولا تهمد حركة يده اليمنى من التلويح في فضاء الغرفة، بينما يده اليسرى مستريحة على طاولة المكتب.

 

نَبِهَ لتهوره، وانسياقه في الكلام، فسكت.

 

غالبت ذهولي، وأدركت، وهو يتكلم، أنَّ الرجل الذي نما فيَّ الفضول إلى معرفته، لا يهمه أمر "روزاليوسف"، فما جئت أعرضه عليه واستفيض في شرح أهميته هو بالنسبة إليه كما قال لويس جريس "وجع راس" هو في غنى عنه، ولا يريده، وليس مطلوباً منه أساساً".

وفجأة سكت، بحث عن كوب الماء، أفرغ ما فيه في جوفه، مَسَحَ شفتيه بمنديل أخرجه من جيب سترته، انتظر أن أردَّ، سقط نظره على وجهي لمّا رآني أتحفز للكلام:

 

"- يبدو لي أن لا شيء ذكرته لك عن أهمية تواجد "روزاليوسف" في أوروبا يلغي قرار إغلاق مكتب لندن؟ أزعجه سؤالي، تَبَرَّمَ، قَطَّبَ، لوى عنقهُ بخفة: "- يا أستاذ القرار لا رجعة عنه... 

 

لم يترك لي مجالاً للتفاوض بشأن تقاضي أي تعويض مالي عن سنوات عملي في الدار، رفض مجرد البحث أو النقاش، اعتبر أنني استقلت، أو أنني مُقال بحكم عدم امتثالي للعودة إلى العمل تحت إدارته.

 

وقفت، زررت سترتي، وقف، أدرت له ظهري، ومشيت نحو باب غرفة المكتب، ظل واقفاً ، دهشاً، كان لويس جريس ينتظرني في مكتبه، أخبرته بالحرف ما دار بيني وبين خميس، هزَّ برأسه، وأطرق يُفكِّرُ فهو أصبح مهمشاً، مُبعداً، يصبر على مضض منه، وينتظر، فما عدت له مجيراً، وما أردت إحراجه، ونكيء جرحه النازف.

 

- "إرفع قضية.. إرفع قضية ضد الدار، إن ما قام به عبد العزيز خميس هو إجراء تعسفي"، ضربَ لويس جريس قبضته على الطاولة.. أكمل: - "فايز حاضر... وفايز هو شقيقه المحامي الضليع في قضايا العمل.

 

رفع لويس جريس سماعة الهاتف، أدار  القرص ورسم رقم مكتب شقيقه، ضرب لي موعداً معه لتحضير الملف، وتقديم الدعوى، وكان اللقاء مع فايز جريس، سجل أقوالي وأرفقها بكل ما أحضرته له من وثائق ومراسلات.. فتشكل ملف الدعوى، رفعها فايز جريس، وتبّلغها عبد العزيز خميس ومرسي الشافعي.

 

وتنقل ملف الدعوى من قاضٍ الى آخر، تعقد جلسة وتؤجل، تُعقد أخرى، يغيب محامي "روزاليوسف"، تؤجل مرة أخرى، يتمرجح ملف الدعوى، وتكرج السنوات، وتطويني الغربة الثانية في بلاد الإنجليز، وعندما عدت إلى مصر قررت سحبها، والتخلي عنها، فأرحت الأستاذ فايز جريس وأرحت نفسي! روى لي الزميل والصديق الودود محمود المراغي، زوج الزميلة نجاح عمر (التي دار قلمها على صفحات "صباح الخير" فبرزت ولمع نجمها) وكان مديراً لتحرير "روزاليوسف"، أن عبد العزيز خميس في اليوم التالي من تعيينه، عقد اجتماعاً لأسرة تحرير مطبوعات الدار. 

 

وقف وقال، وتطاولت عليه الأعناق، وكان صمت لسماع ما عند "الأستاذ"، فراح يجمع الكلام، واصفاً مدى امتعاض الرئيس السادات وغضبه الشديد مما يكتب في مجلة "روزاليوسف"، وما تتناوله "صباح الخير" من غمز ولمز إن في الكلام أم في الرسومات الكاريكاتورية، وقال بنبرات حادة، إنه يجب إغلاق ما سماه "الصفحة السوداء"، وفتح صفحة جديدة لسياسة تحريرية متطورة ومختلفة.

 

وراح بمستطيل الكلام يعرض ما يفكر به.. ولم يجادله أحد وحده محمود المراغي طلب الكلام، ولما أُعطيه، اعترض على ما كان عبد العزيز خميس سماه "شرعية التغيير"، فهي كما عرضها تجعل "روزاليوسف" تفقد قراءها، بعدما كان التوزيع تجاوز أرقاماً ما عرفتها الصحافة المصرية من قبل، وجعلها الأولى من دون منازع.

 

أيبست الدهشة ألسنة من حضر ذلك الاجتماع، فأي كلام يمكن أن يقال بعد كلام "الأستاذ"، الذي أعلن فيه تقويض كل ما بناه الثنائي عبد الرحمن الشرقاوي ولويس جريس، وما خططا له وأعداه لتطوير مجلتي الدار، كان علي أن أطوي الجرح، وأتجلد بالصبر، وأجد السبيل للخروج من الأزمة!                                                                                                 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز