عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ياسر رزق الموهبة الشاملة.. يغادر البشر ويبقى الأثر

ياسر رزق الموهبة الشاملة.. يغادر البشر ويبقى الأثر

يغادر البشر بأجسادهم، ويبقون بآثارهم، وكما بين الجواهر الثمين لندرته، فبين البشر جواهر وطنية ومهنية، لمن يقدر الرجال حق قدرهم.



 

في مهنة الصحافة جواهر قيمة، كنوز ينبغي أن يدرك الوطن والشعب قيمتها، لتعظيم أثرها في حياتها قبل رحيلها إلى دار البقاء، ليبقى الأثر نافعًا للأجيال المتعاقبة، قوة دافعة لمحركات بناء الوعي.

 

أقسى لحظات حياتي تلك التي أنعي فيها قامة مهنية صحفية مكتملة الموهبة والعطاء، فقد رزقت- منذ وطئت قدماي بلاط صاحبة الجلالة- نعمة الانشغال بقضايا مهنة القلم الذي أقسم الله به، وبأصحابها، فعرفت عن قرب همومها وأوجاع أبنائها وأنا منهم، كما عرفت أساتذتها وموهوبيها ورموزها، إنسانيًا قبل المهنية، فبات الفقد مؤلمًا ولكن النعي فيه دروس وعبر.

 

قد تجد نقابيًا متميزًا، وقد تجد مُخبرًا صحفيًا يجيد الوصول للمعلومات، وقد تجد "ديسك مان" محترفًا يُجيد صناعة المحتوى وصياغته، وهناك من أوتي براعة التحليل، وآخرون- وهم قلة- من رزقوا موهبة الإدارة وعززوا موهبتهم الإدارية بتطبيقات عملية، ومنا من تغلب عليه الإنسانية ويمتاز بذكاء اجتماعي، لدينا- ككل المهن- نماذج تمتاز بكل جانب من تلك الجوانب.

 

لكن من النادر جدًا، في أجيال الصحافة المتعاقبة، أن تجتمع كل تلك المواهب والمهارات في شخص الصحفي الواحد، وعندما تحدث يكون متفجر الطاقات والمواهب، ويلمع بين أقرانه، وقد يمكنه الموقع الذي يتولاه من إثبات قدراته وإنزال مهاراته لأرض الواقع، بيد أن رحيله عن منصب لا يُخبئ بريقه المهني إلا بقدر المدة الزمنية التي يتطلبها لتجاوز محنته، نفسية كانت أو مرضية، ليعود فارضًا بريقه من جديد بموهبته وقدراته المهنية.

 

الكاتب الصحفي المُبدع الراحل ياسر رزق أحد هؤلاء النماذج النادرة، فقد اجتمعت فيه مقومات الصحفي النجم، الممتلك لمقومات النبوغ والعطاء، فهو النقابي القدير القادر على كسب ثقة زملائه لتمثيلهم في مجلس النقابة، الممتلك لمهارات النجاح ليُحقق ما يعزز تجديد الثقة به لدورات ثلاث، ١٢ عامًا، يحقق إضافة في كل ملف يوكل إليه.

 

وهو الصحفي المُحترف الذي يستطيع الوصول للمعلومات الدقيقة ويوثقها، وهو الموهوب الذي يستطيع أن يصيغ المعلومات بصياغات مهنية حرفية تقدم المعلومات بلغة أدبية ممتعة ومشوقة، ممزوجة بحرفية المحلل السياسي، الذي ينطلق من المعلومة إلى التحليل، ليضاعف قيمة ما لديه، ويضيف للقارئ الجديد بين السطور وما وراء الخلفيات، فيعزز حصون الوعي.

 

وهو الإداري الناجح تحريريًا كرئيس تحرير، وقياديًا للمؤسسة في موقع رئيس مجلس الإدارة، فالمؤسسات الصحفية ذات طبيعة خاصة، بما لها من أدوار تنموية معرفية ثقافية، وطنية، وما تواجهه من تحديات اقتصادية، لذا تتطلب قيادات تملك قدرات ومقومات خاصة، وقد أثبت نجاحًا إداريًا كما كان ناجحًا في مهامه النقابية والتحريرية.

 

 

مع توليه رئاسة اللجنة الثقافية، أعاد إحياء جائزة التفوق الصحفي المصرية، وهي بالمناسبة الجائزة التي أسسها الكاتب الصحفي العملاق والنقابي القدير محمود عوض، رحمه الله، أحد كنوز المهنة ورهبان صاحبة الجلالة وأساتذتها.

 

ومع توليه مسؤولية لجنة الإسكان حقق فيها نجاحات، وأقام مشروع مدينة الصحفيين بالتجمع، وأتاح لشباب الصحفيين وحدات سكنية بأسعار لا تنافس، وعندما تولى أمانة الصندوق اجتهد لتنمية الموارد، فكانت تجربته ناجحة، وظل متصلًا  بالشأن النقابي.

 

عرفت الأستاذ ياسر رزق عام ٢٠٠٦، كان عضوًا بمجلس نقابة الصحفيين، وكُنت محرر روزاليوسف لتغطية شؤون النقابات، مهتمًا بشؤون مهنتي، لفت انتباهه اهتمامي بقضايا المهنة وما أكتبه من تحقيقات، جلست معه الجلسة الأولى، فامتدت إلى مشهد الوداع اليوم بمسجد المشير، سأحدثكم عن مشاهد سريعة تظهر بعضًا من جوانب شخصية الزميل العزيز الذي غادر دنيانا إلى دار البقاء.

 

المشهد الأول:

المكان نقابة الصحفيين، الزمان منتصف 2006.

في تلك الجلسة تحدث معي بالأرقام كيف حقق طفرة في العام ونصف العام الأول لرئاسته لتحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، وكيف طوّر تحريرها وجعلها محط اهتمام النخبة الفنية والثقافية والجمهور.

 

كان حريصًا على أن يتحدث بالأرقام، يتكلم بحماسة، ويشدد على أن لديه المزيد ليعظم ذلك النجاح، في ذلك الوقت كان فخورًا بتجربته الأولى، لكنه في ذات الوقت يريد أن يُثبت للجميع أنه كان أهلًا  لتولي قيادة إحدى المطبوعات الرئيسية بأخبار اليوم، بيته الذي نشأ فيه وحلم بالارتقاء به.

 

في عام ٢٠٠٥ شهدت المؤسسات الصحفية القومية تغييرات شاملة للقيادات الإدارية والتحريرية، بعد أكثر من ٢٠ عامًا ظلت فيها قيادات المؤسسات ثابتة دون تغيير، فاعتلى رئاسة مجالس الإدارات قيادات شابة، وكذلك رئاسة تحرير الإصدارات الرئيسية، ورغم شمول التغييرات رزق لعدم إمكانية إغفال موهبته؛ إلا أنه تولى إصدارًا قوميًا ناطقًا باسم ماسبيرو، وليس أحد إصدارات الأخبار.

 

هنا يتضح منهجه، فإن لم تحقق كامل هدفك، اجعل من الجزء الذي بيدك دليلًا على أنك تستحق الأفضل، وقد كان، فبعد ٦ سنوات نجاح في رئاسة تحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، جاءته الفرصة رئيسًا لتحرير صحيفة الأخبار، ثم المصري اليوم، ثم العودة رئيسًا لتحرير ومجلس إدارة مؤسسته، التي نشأ بها متدربًا وهو في السنة الأولى طالبًا بكلية الإعلام ١٩٨٢.

 

المشهد الثاني:

الزمان أغسطس ٢٠١١، اتصال هاتفي من الأستاذ ياسر رزق: مساء الخير أيمن أخبارك إيه؟ 

أنا: الحمد لله بخير. 

الأستاذ ياسر: عامل إيه في الشغل بعد التغييرات؟

أنا: ماشي الحال.

الأستاذ ياسر: ماسك إيه في روزا؟

أنا: مستمر في رئاسة القسم السياسي.

الأستاذ ياسر: إيه رأيك تنقل تعيينك من روزا إلى الأخبار؟ عاوزك معي تحرر صفحتين حوارات، عجبتني السلسلة التي حصلت بها على جائزة النقابة، وفكر، وتنورني غدًا تشرب معي القهوة.

 

ذهبت في اليوم التالي للأستاذ ياسر، وشكرته على ثقته، واعتذرت لصعوبة تفكيري في ترك روزاليوسف، وأنا عضو مجلس إدارة منتخب بها، ومع التغييرات يحتاج الزملاء وجودي، كما أن هناك شبابًا غير معينين يعملون من سنوات ويعلقون عليّ الأمل في دعمهم لتوفيق أوضاعهم.

 

شكرني وقال: العرض أمامك، أي وقت تنور.

 

وهنا، رغم عدم استفادتي من العرض، إلا أنني وجدت في الأستاذ ياسر شخصية رئيس التحرير الذي قرأنا عنهم في تاريخ الصحافة هؤلاء المتميزين الباحثين عن ضم لمؤسساتهم كفاءات يتوسمون فيهم الخير.

 

المشهد الثالث:

الزمان: مارس 2015 

الحدث: انتخابات نقابة الصحفيين 

الساعة ٤ فجرًا، أمام قاعة الفرز يجلس الأستاذ ياسر وحوله زملاء صحفيون، كانت اللجنة المشرفة تعيد فرز الصناديق لحسم الأمر على المقعد بيني وبين الزميل أبو السعود محمد.

 

الأستاذ ياسر متسائلًا: كيف حصلت على هذه النتيجة من دون مؤسسة كبيرة العدد ولا تيار؟

أنا ضاحكًا: إيه رأيك؟ الحمد لله ثقة الزملاء.

 

المشهد يوضح مدى اهتمامه بالنقابة، وفي كل انتخابات يتواجد مبكرًا داعمًا لمن يرجو فوزه، ويظل حتى الساعات الأولى من اليوم التالي، الذي تعلن فيه النتائج النهائية، وهو ليس من المرشحين.

 

المشهد الرابع:

٦ أغسطس ٢٠١٩

إقلاع الطائرة من مطار القاهرة إلى جدة، لأداء مناسك الحج.

تصادف أداء مناسك الحج في نفس العام، بل ونفس مخيم مناسك منى، وفي طواف الوداع يصادف أن ألتقي الأستاذ ياسر- رحمه الله- وحرمه الأستاذة أماني ضرغام، الكاتبة الصحفية المُبدعة، خلال طواف الوداع، لنكمل أشواط الطواف حول الكعبة المكرمة.

 

فإذا بالأستاذة أماني، وقبل رحيل الأستاذ ياسر بساعات، تنشر على صفحتها صورة لها وزوجها، داعية الله أن يرزقهما عودة جديدة لبيته العتيق.

 

اللهم بحق طوافهما وحجهما واعتمارهما أن ترحمه وتغفر له، وأن تتقبل دعاءهما الذي دعياك به، فأنت يا إلهي أكرم الأكرمين، وهذا عبدك قد زار بيتك العتيق، واليوم في رحابك فأكرمه بكرمك ورحمتك.

 

المشهد الخامس والسادس:

العاصمة الألمانية برلين أكتوبر 2018

تغطية فعالية رئاسية 

في العاشرة مساءً وبعد يوم طويل من العمل، يظل يتابع حاملًا بيده قلمه وأجندة يدون بها المعلومات والملاحظات، ينقب عن التفاصيل والمعلومات.

 

نفس المشهد في نيويورك ٢٠١٨ خلال تغطية فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو رئيس مجلس إدارة، لا يترك أجندته من يده، يهرول حول المعلومة والتفاصيل ويسعى إلى المصادر.

 

الرسالة: الصحفي المهني يظل صحفيًا، يكتب ويحرر ولا يحول منصب بينه وبين ممارسة المهارات والسعي المطلوب لنجاح صحفي في مُقتبل عمره.

كان اللقاء الأخير بمنتدى شباب العالم، مداعبه لطيفة منه، وتهنئة مني بصدور كتابة الهام.

المشهد الأخير:

شاهده الجميع، ترك مقعد رئاسة مجلس إدارة الأخبار، ورغم ظروفه المرضية، أبى الصحفي الذي بداخله أن يستريح، استنهض همته، وعكف على استذكار معلوماته، وتوثيقها، والاستزادة لينتج مؤلفه المهم "سنوات الخماسين.. بين يناير الغضب ويونيو الخلاص" الذي يوثق فيه شهادته عن أهم فترات تاريخ مصر الحديث.

 

ليصدر الكتاب، ويعود به لبريقه المهني، معلنًا أنه بصدد إصدار جزءين آخرين، إلا أن قضاء الله كان أسبق، لكنه ترك أثرًا سيظل نافعًا للأجيال المتعاقبة.

 

الرسالة: الصحفي الموهوب المهني، دائم العطاء حتى النفس الأخير، مقاتلًا  على جبهة الوعي، يرحل لكنه لا يموت، يبقى بأفكاره وتاريخه ودروسه ومؤلفاته.

 

رحم الله الموهوب ياسر رزق وأسكنه فسيح جناته.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز