عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"أصحاب ولا أعـز".. قراءة في التلقي

"أصحاب ولا أعـز".. قراءة في التلقي

في ظل معسكرين متحاربين، وفي ظل سيولة مدهشة، وتكاثر في ردود الأفعال المتدفقة حول فيلم أصحاب ولا أعز، الذي أطلقته شبكة نتفليكس الأمريكية في باكورة إنتاجها للأفلام العربية، يصبح إبداء الرأي في هذا الأمر مغامرة، ربما تكون جالبة للتوتر.



ولكن محاولة قياس الأمر وفقًا لمعايير علمية نقدية، هو أيضًا ضرورة واجبة، وبعد مشاهدتي للفيلم وللمقطع المحذوف منه، يأتي اليقين بأن حذف موقع نتفيلكس للمشهد الذي هو عبارة عن سباب واضح للشخصية الدرامية عن صورتها التي نشرتها صديقتها "استر" على مواقع التواصل الاجتماعي، هو استجابة نوعية لرأي جماعة المشاهدين، وأن عملية التلقي هي الحاكم الأول الأكثر فاعلية في إطلاق وإنتاج الفنون. 

لاحظ معي اسم الصديقة "استر"، وبتأمل الفيلم جيدًا لاحظ معنى أيضًا أن "روي"، وهو اسم الفاعل في علاقة مثلية مع “ربيع” الشخصية الدرامية ينهي الرسالة بـ(شالوم)، وليس سلام، أو مع السلامة. 

لاحظ معي أيضًا أن أحد الأبطال، وهو الزوج المصري في الفيلم، يصف خسوف القمر بأنه الوجه الحقيقي له. 

إن الفيلم يرمز إذن إلى كشف الوجه الحقيقي لهذا المجتمع الذي يتحدث عنه، إنه الوجه الحقيقي، كما أراد صناع الفيلم قول ذلك.  

تأمل معي مفردات، "استر وشالوم"، لتعرف معنى الرسالة المستترة في دهاء غامض في طيات هذا الفيلم. 

الفيلم، وإن جاء به أبطال من نجوم مصر ولبنان والأردن، إلا أنه ينتمي لعالم الأفلام بسيطة التكلفة، لأنه يدور في مكان واحد، ويشبه الدراما المسرحية المصورة. 

إنه إذن يستهدف مناقشة فكرية بعينها، ويقدم نتائج ونماذج جديدة في السلوك العربي، في مصر ولبنان، كما يأتي في جنسيات الشخصيات الدرامية. 

وهذه النماذج هي: أولًا: الأب الذي يمنح ابنته ذات الثامنة عشرة ربيعًا حرية أن تبيت خارج المنزل مع صديقها، وأن تقيم معه علاقة خارج مؤسسة الزواج. 

وهو يقنع زوجته، المصدومة من وجود واق ذكري في حقيبة يد ابنتها، وتقبل الأم الفكرة في إطار أن الابنة تم تربيتها في سياق حرية الاختيار. 

ثانيًا: قبول فكرة التسامح السهل الإنساني لفكرة الخيانة الزوجية، من الطرفين، دعمًا لفكرة الحفاظ على الأسرة، والتسامح مع هذا النوع من الأخطاء الإنسانية، وهو تسامح يدفع به الفيلم في إطار الرقي الإنساني. 

النموذج الثالث: الرجل ذو الميل الجنسي المثلي، وإمكانية أن يحتفظ بنفسه هكذا، وبمقدرته على إعلان ذلك بيسر، والفيلم يصوره رياضيًا متسامحًا يقرر أن يكشف عن هويته، دعمًا لصديقه، حتى لا يفسد علاقة صديقه بزوجته. 

كما أنه أقوى الرجال في الفيلم، وهو قادر على فتح الباب المغلق بضربة واحدة من رأسه، بينما يفشل رجلان في فتحه معًا بكامل قوتهما. 

النموذج الرابع: مجموعة مهنية تعيش في ممارسة مهن ذات طابع اجتماعي مرموق، أبرزها الطبيب، وهم في حالة يسر مالي كما يتضح من أناقة واتساع المكان/ البيت، وأيضًا من طبيعة سياراتهم الأنيقة، وهم لا يرون من العالم إلا العمل والصداقة والجنس، والجنس هو القاسم المشترك الأعظم في اهتماماتهم ولا حديث خارجه، إنه مركز الاهتمام الأول في عالمهم الافتراضي. 

الفيلم يحتوي على ألفاظ لم تعتد أذن المشاهد العربي على سماعها، ربما يكون هذا الأمر هو الاقتراب الممكن من السينما الأمريكية التي تستخدم تلك الألفاظ الخارجة عن اللياقة العامة، في إطار مشاكلة الواقع، وهو الأمر الأقل ضررًا في الموضوع الدرامي. 

مثل هذه الشخصيات موجودة في كل زمان ومكان، ومثل هذا التجاوز السلوكي واللفظي موجود أيضًا، لكن الفن موقف واختيار. 

ويأتي موقف الفيلم واختياره الفني والفكري لدعم تلك الشخصيات، وجعلها مألوفة واعتيادية ومقبولة اجتماعيًا. 

وتبقى القراءة الموضوعية تسأل من أنتج الفيلم، ومتى، وكيف، ولماذا، ولمن يقدمه؟ 

أما الشريك الفاعل الذي أطلق الفيلم على شبكته، فهو شريك تجاري كبير في عالم إنتاج الفنون والتسلية، وسبق له إنتاج دراما مسلسلة تشيطن المقاومة الفلسطينية وتصورها في موقف العدوان على الإسرائيليين الأبرياء، والمنتج المكلف هو المصري محمد حفظي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.  

ثم متى تم إطلاق الفيلم، فهو بالتزامن مع انخفاض إنتاج السينما المصرية والعربية، وإعلان أحد أكبر رموزها- وهو المخرج الكبير داود عبد السيد- اعتزاله بسبب عدم قدرته على التفاعل مع الإطار العام للإنتاج. 

والسؤال عن الكيفية، نرى الإجابة عنه في تلك التكلفة الإنتاجية المحدودة والدعاية العكسية التي تنجح عبر الصدمة في تحقيق الأرباح الخيالية. 

أما لماذا؟ فالفيلم يستهدف الترويج لسلوكيات ونماذج أفعال افتراضية اجتماعية صادمة، وغير اعتيادية ومتناقضة مع القيم والهوية المصرية والعربية.

وأما موقف الجماهير المصرية فقد كان هو هذا الهجوم شديد القسوة، شديد الوضوح بالغ الكثافة، ما يؤكد في أي دراسة في علم التلقي أن معظم العينة العشوائية التي اخترتها للتأمل رافضة للفيلم، ومنهم عدد كبير من قادة الرأي. 

المشكلة أن النقاش أخذ مساحة مبتورة، وتحول إلى هجوم على الفن عامة والفنانين أيضًا، وهو نموذج خاطئ وخطير، وتحول في المعسكر الثاني إلى دفاع مستميت يخلط الأمور، ويجعل حرية الإبداع طرفًا في النقاش، وحرية الإبداع لا علاقة لها بالموضوع، فالإبداع وحريته في كل مكان وزمان مشروط بقدرته على أن يكون مقبولًا، ومفهومًا، ومتفاعلًا مع الإطار العام المرجعي للمتلقي. 

جدير بالذكر أن مصر تتيح شبكة "الإنترنت" بشكل متصل بالشبكة الدولية العامة، وهي لا تفرض وصاية على سيولة وحركة المواد المصورة، والمواقع والمنصات العاملة والمتاحة على الشبكة. 

وهي تترك الأمر لحيوية المجتمع وقدرته على التفاعل مع الأفكار والصور والآراء، وهو سلوك حضاري لا يمارس الوصاية الأبوية، ولا يجعل نفسه حارسًا على حرية المعلومات والصور، وما إلى ذلك. 

إلا أن ذلك لا يعني القبول أو الموافقة لكل ما هو متاح، ولكل ما يتم طرحه، وفي إطار العولمة الثقافية يحاول الطرف الأغزر إنتاجيًا طرح نموذجه في الحياة ليصبح نموذجًا عالميًا. 

إلا أن التنوع الثقافي العالمي قابل ذلك بردود أفعال مختلفة. 

ومن أكثر ردود الأفعال وضوحًا وحدة، هو رد فعل الصين المعاصرة تجاه تقييد شبكتها للمعلومات، وتجاه رفض النموذج الاجتماعي المعولم القادم بالتحديد من بعض مصادر الإنتاج الأمريكية، وذلك لتبني الصين وجهة نظر مفكرها المهم (Wong Heening) وانج هوانغ، في ضرورة مراقبة الفنون ومواد الترفيه منعًا لتأثر الشباب بالسلوكيات والنماذج الوافدة. 

أما المؤسسة الرسمية المصرية فلم تفعل ذلك. 

وحقيقة الأمر أن الدفاع عن الحق والخير والجمال، وترقية الفنون لهو أمر يأتي بالمنح لا بالمنع، وبالنقاش لا بالاتهام وكراهية الآخر. 

وهو الأمر الذي عبر عنه طرح هذا الفيلم، وعبر المصريون عن دهشتهم وانزعاجهم في أغلبيتهم، الأمر الإيجابي حقًا أن الحيوية الثقافية للمصريين لم تنبهر بهذه النماذج المطروحة عليهم، فالتاريخ الثقافي المصري بخصوصيته وهويته قادر على الفهم والتفاعل والرفض والسخرية، بعيدًا عن المنع والمصادرة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز