عاجل
الأربعاء 23 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
آخرما كتب أديب نوبل.. نصيبك في الحياة

آخرما كتب أديب نوبل.. نصيبك في الحياة

كان نجيب محفوظ عاشقا للحياة، مغرما بتفاصيلها، ينشر عطرها فى أدبه، فإبداعه حافل بهذه الروح المُحبة للحياة والإنسان فى كل زمان ومكان، فهو ابن حضارتين: الحضارة الفرعونية، والحضارة العربية الإسلامية، لكنه أيضا تأثر بالحضارة الغربية الحديثة ليكون أدبه نتاج ذلك كله، ثمرة التواصل مع الحضارات.



 

 

وكان محفوظ يؤكد دائمًا: أن الحضارة الفرعونية كانت تُمجد الحياة فيقول: “لقد وصل حُب الحضارة المصرية للحياة وتقديسها لها أن صوَّرت الحياة الأخرى على شاكلة حياتنا هذه”.

 

وامتد هذا الفهم العميق وتقديس الحياة إلى أدبه فأبرز القيم الجمالية، والروحية، والإنسانية فى كتاباته بحيث يمكننا القول إن من يقرأ أدب نجيب محفوظ فإنه قد أدرك نصيبه من الدنيا.

آخر ما كتب نجيب محفوظ، مجموعة من القصص القصيرة، التي لم تنشر فى مجموعاته القصصية وصدرت تحت عنوان “همس النجوم”، وهو عنوان إحدى قصص هذه المجموعة، التي كتبها محفوظ في تسعينيات القرن الماضى، وقد صدرت حديثا عن دار الساقى ببيروت، وقدم لها الكاتب المبدع محمد شعير الصحفى بجريدة أخبار الأدب، وقد دفعت بها إليه أم كلثوم ابنة نجيب محفوظ.

لتقدم لنا إضافة حقيقية لتاريخه الأدبى، فنتعرف على قصصه المجهولة، وأقصد بها تلك التي لم تضمها مجموعاته القصصية المنشورة في كتب، وتضم “همس النجوم” ثماني عشر قصة قصيرة خارج الأعمال الكاملة بطبعاتها المختلفة، من بينها قصة لم تُنشر من قبل بعنوان “نيقة في الحصن القديم”.

ويذكر محمد شعير أن من بين هذه القصص أيضًا قصة “السهم” التي تصدرت مختارات محفوظ التي أصدرتها هيئة الكتاب عام 1996، ونُشرت بعض قصص هذه المجموعة فى مجلة “نصف الدنيا” بعنوان “آخر ما كتب صاحب نوبل”، ويتصل عنوان هذه المجموعة الصادرة حديثا “همس النجوم” اتصالا واضحا بعنوان مجموعته القصصية الأولى “همس الجنون”، والتي جمعها السحَّار، وصدرت عام 1947.

فبين هذا الهمس الأول، والهمس الأخير تسامت رحلة محفوظ الإبداعية، وفى “همس النجوم” تكمن الخصائص المميزة لسرد محفوظ، وشخصياته التي تطورت فى سطوره، وخرجت من بين تلك السطور لتحيا فيما بيننا وتعيش، وكأن نماذجه الإنسانية فى عالم “الحارة المصرية”، هي العائشة في الحقيقة وفي الخيال، بل وحاضرة في القلوب.

إيمانه بالفن

 

تبلغ قصص المجموعة ذروتها الفنية والجمالية في قصته “نصيبك من الدنيا”، فهي أنشودة عذبة لممارسة الحياة بكل ما فيها من حزن وفرح، وآلام ومسرات، وكأنه يقول إن الحياة هى ما يحدث لك الآن، وقد صوَّر محفوظ قصته حادثًا غريبًا ألم بأهل الحارة، حادث كأنه الوباء وهو البكاء الذي تمكن من أهل الحارة، ولم يعرف أحد السبب الغامض لهذا البكاء، ولا أفلح أحد فى التغلب عليه بل أصاب البكاء أيضا شيخ الجامع، وشيخ الحارة، وفى غمرة الأحزان يظهر حسن الآلاتى، وبيته بيت طرب وغناء فيدخل الجميع إلى بيته، ويستمعون إلى أصوات الطرب، وينصتون لجمال الأنغام فتبددت الأحزان.

وصار الناس يتقاطرون على بيت حسن الآلاتى من جميع الأركان، وكفوا عن البكاء.

فكان الخلاص بالفن والغناء والطرب مما يعكس إيمان محفوظ العميق بالفن ودوره فى حياة الإنسان.

نماذج إنسانية

عالم محفوظ بنماذجه الإنسانية يقدم لنا الحياة بصورها المختلفة، وكيفية التعامل معها، ويجعل العقل حاكما على تطور الشخصيات فمن أعمله نجا، ومن تجاهله تعرض للأخطار فكما ألمت محنة البكاء بأهل الحارة جاءت العاصفة التي تخيل الناس أنها يوم القيامة! فحدثت الفوضى وعَمَّ الخراب والنهب والسلب، وضاعت الأموال، وعجز شيخ الحارة عن التعامل مع ما حدث، وقال لأهل الحارة «لست مسؤولا عن الرياح»، فزع الجميع، وتخيلوا أن اللصوص هم الذين استدعوا العاصفة من مكانها فى السماء!

وفى هذه القصة «العاصفة» اعتمد محفوظ على قوة الرمز، وعلى الحدس الذي تمتع به بعض أهل الحارة من الذين شفَّت قلوبهم ويرون ببصائرهم، وهم دائما يأتون فى موعدهم فى السرد فى قصص محفوظ، وكأنهم على موعد مع الحياة يبثونها فى النفوس، ويؤكدون على معانيها بين الخلق، فالشيخة «بهية» فى قصة «العاصفة» تستبصر بقدومها قبل أن تحدث فتقول: «قلبى ينذرنى بخوف غادر»، وعند باب الحصن اجتمع قلة من الناس الذين ظلت ثيابهم بيضاء، لم تمتد إليها العاصفة، فصاروا يتبادلون الهمس، لعله همس النجوم، والتطلع إلى السماء، واعتزموا الشد على الأيدى فى الظلام، يتطلعون إلى بزوغ الفجر بعزم ونفاد صبر.

وتطل هذه الشخصيات المستبصرة من دنيا الحارة عند محفوظ فتظهر فى قصة «السهم» حيث يؤمن أهل الحارة بأن كلام الشيخ «رمضان» حول مقتل المعلم «زين البركة» هو الكلام الصحيح، فقد قال إن يد القدرة بعثت بمن يثأر منه لمظالمه فأصابه السهم من الحصن الكائن فوق القبو، فأهل الحارة يرون الشيخ «رمضان» ولى من أولياء الله الصالحين، وقد قدم تفسيرا لمقتل «زين البركة» يقترب من رؤيتهم، فهو ليس زينا ولم تحمل أفعاله بركة لأحد وأكدت «أم بسيمة» الدارية ما رآه الشيخ «رمضان» فقالت أنها رأت شبحا يتسلق الحصن، لكن أهل الظاهر حذروا من تصديق الخرافات وظلت قصة «السهم» غامضة.

الشيخ «رمضان» فى قصة «السهم» والشيخة «بهية» فى قصة «العاصفة»، والشيخ «بشير» فى قصة «همس النجوم» هم قوة استبصار عميقة تبعث برسائل الطمأنينة لأهل الحارة، وأحيانًاَ تبصرهم بمكامن الخطر، فالشيخ «بشير» يمسح على رأس الصبى الصغير، وهو فى صُحبة جدته، شم طاقيته، وقال:

- لا أرى إلا غيما.

فقالت: بل عندك، ولا تريد أن تُكدرنى.

قال: أبدا ولكنك تعرفين الخطر، وعليك الحذر.

والشيخ «بشير» فى هذا الموقف إنما يواصل دوره الذي ألزم به نفسه فى نصح أهل الحارة، فقد حذر والد الطفل أيضا من قبل حين قال له بإشارة من عالمه الخاص: «الصقر سينقض على الدجاجة».

فحسبه المعلم «قدري» يطلب إحسانًا فأجزل له العطاء، ولم ينتبه المعلم «قدر» لزوجته التي أغواها شاعر الربابة بشبابه ووسامته وغنائه فى زيارته للحى، فهربت معه، وتركت طفلها فى عامه الأول، الشيخ المستبصر بوعيه يخشى على الطفل أن يعرف مأساة أبويه فيرى أن تبتعد به الجدة عن الحارة، ومكان الأسى، لكن الجدة لاتريد أن تترك حارتها، فيأمل الشيخ أن يحمل لهما الغيب نهايات جديدة لهذه القصة المؤلمة.

وعندما يتم سؤال الشيخ عن يقين أو تأكيد لمخاوفه أو تنبؤاته، فإنه يقول بإيمان عميق بالغيب «نحن لا نتجاوز الخط وإلا فقدنا النعمة».

دعاء الشيخ قاف

 

ويلعب الشيخ «قاف» دورا ذا دلالة فى قصة «دعاء الشيخ قاف» الذي يعده أهل الحارة مهبط البركة والاستبصار بالحقيقة، ويتبدى فى القصة أهل السلطة والنفوذ المؤثرين فى نفوس أهل الحارة مثل شيخ الزاوية، وشيخ الحارة، إلا أن الشيخ «قاف» يفوق فى معرفة بالأسرار هذه الشخصيات، فقد ذهب إليه شيخ الحارة ليسأله: من قتل «العايق»؟

فلايجيبه الشيخ «قاف» لكن أهل الحارة يؤكدون أن «الرايق» لم يقتل «العايق»، وأن «كبريتة»، و«الزينى»، و«فايق» شهود زور، حتى «الرايق» شاهد زور على نفسه، وتعطى القصة دلالتها الخفية من خلال كلمات الشيخ «قاف» ودعائه بأن يأتى إليه شيخ الحارة ثانية، لا تفصح القصة عن الجانى لكنها تعكس معرفة الشيخ «قاف» بالأسرار، واستبصار وعيه بما لا يعرفون.

ابن الحارة

 

لا يترك محفوظ أهل الحارة لتخرصات الأولياء، ولا استبصار الصالحين منهم لكنه يدير قصصه بمهارة فنية، فتولد نماذجه الإنسانية من قلب الأحداث، فهذه المجموعة القصصية «همس النجم» هي متوالية قصصية، تصلح بشخصياتها، وأحداثها، ودراميتها لتكون بنية لرواية تتوالى حكاياتها المكثفة لتصنع عالم الحارة الذي لا تنضب اكتشافاته عند محفوظ أبدًا، فهو عالمه الروائى الأثير، ففى قصة «ابن الحارة» يخرج أحدهم لتتحقق فى كلماته روح العدل فيخبر الناس بما يُملى عليه ضميره من ضرورة تغيير الأوضاع الفاسدة، فيهاجم الفاسدين فى الحارة، ويبدأ بمواجهة المعلم «زاوى» قائلا: «رد كل مليم حرام فى مالك إلى مستحقه»، لكن المعلم «زاوى» قام بضربه، وحاول أهل الحارة الدفاع عنه، وفى هذا الصراع سقط «الزاوي» جريحا وكذلك ابن الحارة، فنهض شيخ الحارة لإعادة النظام، وتعجب من كثرة الجرحى، وقال شيخ الحارة للإمام «ليلة عجيبة» فاقت فى غرابتها حكاية العفاريت فى الحصن.

وتضيف قصة «نبقة فى الحصن القديم» تأكيدًا على أبطال الحارة الذين يظهرون دائمًا فى الوقت المناسب سواء للدفاع عن حق ضائع أو لمقاومة الفساد أينما ظهر، فنبقة الذي نذره والده السقاء لخدمة الزاوية، قد سلمه لإمام الزاوية حتى يتشرب قلبه النور والبركة، لكن «نبقة» تمرد على إمام الزاوية قائلًا: «لم أعد أصلح لأكون خادما لك ولا أنت تصلح لتكون سيدًا لى»، فعرفت الحارة كلها الوجه الآخر لنبقة، الذي بدأ فى مهاجمة كل مظاهر الفساد، فأمره إمام الزاوية بالعودة إلى الزاوية، لكن «نبقة» واجهه بقوة أشد فقال له: «عد أنت إلى زاويتك، أما أنا فلا زاوية لى».

لقد استمد الصبى حكمته من القوة الجديدة التي استمدها من المجهول ومن زيارته للراحلين، لكن من هم الراحلون الذين ملأوا وجدانه معرفة وقدرة؟!

المدقق فى هذه القصة يرى ما رسمه محفوظ بمهارة فنية لأفكار هذا الصبى وتطلعه إلى اكتشاف المجهول، لقد كان يسأل كل من هب ودب: «متى فتح باب الحصن الموجود داخل القبو؟» ويسمع إجابة واحدة وهى: «يُفتح مرة فى العام عند زيارة رجال الآثار، ولكنه صار منزلا للعفاريت».

لقد رفض الصبى هذه الرؤية فلا عفاريت فى الحارة، وإنما يوجد الفاسدون وأولئك الراحلون الذين يزورهم رجال الآثار ربما هم مصدر القوة والمعرفة التي أمدت الصبى بالقوة والرغبة فى المواجهة، فتمرد على شيخ الحارة، ولم يبال بضرباته، بل تلقاها بهدوء، وتطور الأمر إلى معركة نشبت بين الناس للدفاع عن نبقة «صوت الضمير»، معركة لم تنقضِ قبل هبوط المساء، وتدفق أمواج الظلام، وتحول «نبقة» فى هذه القصة إلى بطل فى حياة أهل الحارة، بل رمز للبطولة والدفاع عن الحقوق، ويصور محفوظ - برهافة الكاتب المؤمن بالمعرفة والقدرة بما يستمده المرء من تراث الأجداد من حكمة وعلم فيقول السارد: «وقيل إن «نبقة» قبض عليه، وقيل إن الأقدام داسته، أما سكان القبور فقد أكدوا أنه حى، وأنهم رأوه يتجول فيما وراء القبو، وأنه كان مع كل خطوة يكبر ويتضخم، ويتعملق، ويمتد فى جميع النواحى حتى تعذر عليهم أن يروا رأسه المنطلق فى الفضاء، ومازال قوم يعتقدون أنه مقيم حتى اليوم فى الحصن القديم.

 

المرأة في قصصه

 

لا يخفت صوت الحق أبدًا فى الحارة، يفصح عنه أصحاب البصيرة، وأبطالها الذين يبذلون أنفسهم فى سبيل تحقيق معنى العدل، لكن ذلك لا يقتصر على هؤلاء فقط، بل تبدو المرأة فى قصصه قوية، لا يرهبها النفوذ، ولا الشخصيات الباطشة، فـ«زكية» تحمل طفلها من المعلم «عثمان» وتواجهه بطفله الرضيع حتى يعترف به وينسبه إليه، فينهار المعلم الذي قرر أن يتزوجها على أن تمضى بعيدًا عن الحارة، وأن تكون لها نفقة شهرية ولطفلها منه، لكن شيخ الحارة يخبره أنها لن تخرج من الحارة ولن تتر ك حقها، ولا أحد يستطيع إقصاءها من الحارة، فمعرفة شيخ الحارة بطبائع الشخصيات، وحكمته هى التي حققت العدل، وكذلك ثبات «زكية» وإصرارها على حقها وحقوق طفلها.

و«سنبلة» فى قصة «النحس» هى الأخرى تتمرد على مخدومها فترفض الاستجابة لنزواته بعد أن اتخذها أداة لتحقيق شهوته، «سنبلة» الفتاة اليتيمة التي علمتها أمه الصلاة والصوم، وحسن أداء أعمال البيت فتكونت شخصيتها من جديد، وأبت أن تستسلم له، فقد فرّ إليها من «نحس» وفاة زوجاته، لكنها تملصت منه قائلة: «عندى من البؤس ما فيه الكفاية»، وشعر بأنها بقولها عبرت عن ذاته وذاتها معًا، وقال لها: «وعندى مثله، فلا غنى لأحدنا عن الآخر»، فهل نجحت «سنبلة» أن تغيّر من شخصية مخدومها ليشعر بإنسانيتها؟ فشعر بتقديرها والتعاطف معها.. فلقد نزعت قشور ذاته ليتبدى أمامها إنسانًا بضعفه قبل قوته، وربما غيرت مصيرها أيضًا فهو يقول لها: عن معاناتهما مع البؤس: «وعندى مثله فلا غنى لأحدنا عن الآخر».

في قصصه تدخل شخصياته فضاءها الخاص، تتوحد مع آلامها وجنوحها، وتعيد صياغة ذواتها من جديد، ففى قصة «الفرن» تعود «عيوشة» إلى مساعدة أسرتها بعد هروبها مع صبى الفرّان، فها هي تنقذهم من الإفلاس، فقد انتهت أزمة الأب تاجر الأقمشة الميسور الحال بما قدمته «عيوشة» وزوجها «زينهم» من المال لأسرتها بعد أن هربت بمصاغها ومصاغ أمها، وسببت لهم جرحًا اجتماعيًا لم يندمل كما يرى أهل الحارة، لكنها عادت لتصلح ما أفسدت من علاقتها بأسرتها.

الزمن بطل

 

الزمن بطل من أبطال نجيب محفوظ في قصصه القصيرة، فهو حاضر بسطوته على حياة الأفراد، فقد يلعب دور البطولة، فيغير المصائر، وأحوال الشخصيات وهو وحده كفيل بأن يكون شاهدا على حيوات تتغير أو تتطور أو تندثر.

«توحيدة» هي رمز للجمال والصبا، والثقافة الراقية، ترتدي أحدث الموضات، تحفظ مختارات، من أشعار حافظ وشوقي، وأشعار الشاعر الفرنسى «بودلير»، وتقوم المفارقة في قصة «توحيدة» على قوة عنصر الزمن، وتأثيره على الإنسان، فقد رآها السارد فلم يعرفها، بل رأى وجها يعد نموذجًا للشيخوخة، وجه ضامر، وشديد البياض، وعميق الشحوب، نادته وهنا يلتفت إليها السارد متعثرًا في الحياء والحنين فضحكت قائلة: «إذا كنت لم تعرفنى فليس الذنب ذنبى».

والزمن هو البطل أيضا فى قصة «نهاية المعلم صقر»، فهو الذي يصنع عنصر الدراما فى هذه القصة ففارق العمر بين المعلم «صقر» ذى السبعين عاما وبين زوجته الجديدة التي بعمر العشرين يخلق عنصر الصراع، بين المعلم وزوجته الأولى وأولاده الذين يتناقشون حول نصيبهم من أمواله، واستئثار الزوجة الشابة به، فسرقت خزائنه وهربت مع ابن عمها، مما أصاب المعلم «صقر» بالصدمة ويحاول إصلاح خطئه فيدل زوجته الأولى على ما فى سحارته من مال خصصه لها ولأولاده.

والزمن أيضًا هو الذي يصنع مأساة المقامر فى قصة «العمر لعبة» فى المجموعة القصصية نفسها، فهو يود الزواج وهو فى الخمسين من عمره من فتاة شابة لتلد له الأبناء، لكن هذه الحسناء تركته وحيدا وتفرغت لجمالها، وتفرغ هو لرعاية أطفاله بعد وصوله إلى سن المعاش.

والزمن الذي لعب دورًا قاسيًا فى حياة المعلم «صقر» والرجل الخمسينى لم يستطع أن يكون عاملًا مؤثرًا فى حياة «عجوة» فى قصة «أبونا عجوة» فلقد هزم هذا الرجل الطاعن فى السن علامات الشيخوخة، ولم يزل هو وابنه ذو الثمانين عاما يكافحان الزمن فيذهب «عجوة» لمكان المزاد ليتملك أرضًا، وعندما يسأله شيخ الحارة: لماذا لا تجلس مع ابنك المريض وتترك الأرض لمن ينتفع بها؟ فيقول: تركت ابنى فى رعاية من تغنى رعايته عن كل رعاية، أما الأرض فسأبنيها فينتفع بها الآخرون.

وهنا يبلغ الإنسان قوته فى مقاومة الزمن والتطلع إلى الحياة بكل أمل وعنفوان.

ليجسد أبونا «عجوة» الرغبة في الحياة والتشبث بها، والعمل على تطويرها، وهذا هو المعنى الأعمق في أدب محفوظ، الذي استطاع أن يصور نماذج إنسانية استطاعت أن تثابر في الحياة، وأن تتعايش مع الحياة بكل ما فيها من سرور وألم، وكما يقول نجيب محفوظ فى كلمته التي ألقيت بحفل حصوله على جائزة «نوبل»: «من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف، وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش فى صدره، وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنّات البشر في الفراغ».

هكذا قال نجيب محفوظ عاشق الحياة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز