عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الصالح والطالح! (2/3)

الغربة الثانية 32

الصالح والطالح! (2/3)

تهلل صوت محمد خير البدوي بالود، كعادة منه، تواثبت الكلمات من فمه:



"زارني صديق تونسي عزيز عليّ، وصفيّ عندي، وهو صحفي عتيق، يُصدر مجلات اقتصادية باللغات الفرنسية والإنجليزية، وواحدة باللغة العربية يتعثر في نشرها، وهو يحاول تطويرها".

 

وكأنه عرف أنني سأسأل واستفسر، أكمل:

 

"إنه عفيف بن يدّر، وقد استشارني، فأشرت عليه الاتصال بك، وطرح ما يريد، فإن فعل... اهتم به".

 

واتصل بالفعل، طلب أن نلتقي، فالتقينا.

 

كان عفيف بن يدّر قد ترك باريس التي درس ومارس الصحافة فيها، إلى لندن، ولكنه لم يقطع الوصال والتواصل بينه وبين الذين بدأ حياته الصحفية معهم، وأولهم أستاذه وقدوته البشير بن يحمد، الذي كان أسس سنة ١٩٦١ مجلة Jeune Afrique اقتصادية سياسية، أطبقت سمعتها الآفاق، وراجت في الدول الإفريقية الفرانكفونية، وفي الأوساط السياسية الأوروبية، كمرجع للقضايا الإفريقية. كما أصدر البشير بن يحمد مجلة أخرى بلغة شكسبير سماها Africa Report، (أصيب بن يحمد بفيروس "كوفيد ١٩" وقضى نحبه في باريس في مارس/ آذار ٢٠٢٢، عن عمر ناهز ٩٣ سنة).

 

عمل عفيف بن يدر في مجلة بن يحمد الفرنسية، محررًا بالقسم الاقتصادي، وزميلًا للتوانسة حميد برادة، وصوفي بسيس المؤرخة والصحفية والدارسة للاقتصاد السياسي في "جامعة سوربون".

 

ومثل أستاذه، جرب عفيف بن يدر النشر، ولكن من لندن، فأصدر مجلة New Middle East باللغة الإنجليزية، ومجلة La Nouvelle Afrique باللغة الفرنسية. والى جانب هاتين المجلتين، شهرية ثالثة سماها "الاقتصاد العربي"، إلًا أنها لم تصل إلى المستوى الذي كان يطمح إليه.

 

وكان أن استهدى إلى الكاتب والصحفي اللبناني المتميز فؤاد مطر، لتطويرها وإنهاضها من كبوتها، وهو كان وقتها قد ترك باريس التي جاءها بعد اشتداد حدة الاقتتال في لبنان، خلال الاحتراب الداخلي الدامي، فكان في عداد الجهاز الذي تولى إصدار "النهار العربي والدولي" من العاصمة الفرنسية، بصيغة رئاسة التحرير الثلاثية: غسان تويني، إلياس الديري وفؤاد مطر.

 

وبعد انتقال عدد من صحفيي "النهار" من بيروت إلى باريس، حل أنسي الحاج وعبد الكريم أبو النصر مكان فؤاد مطر وإلياس الديري. فما كان منه إلا أن انتقل إلى مجلة "المستقبل" (التي نشرها نبيل خوري بمساندة مالية من المصرفي اللبناني جوزف عبده الخوري، ورجل الأعمال الفلسطيني فيصل أبو خضرا)، فانضم إلى كوكبة من صفوة الكتاب اللبنانيين والعرب، فكانت "المستقبل" مجلة المقال والرأي بامتياز.

 

إلا أن المكث في باريس لم يكن مريحًا لفؤاد مطر وعائلته، فقرر الانتقال إلى لندن. ولم يتردد لحظة واحدة في قبول عرض عفيف بن يدّر، وبدأ فعلا في تطوير المجلة، من بابها إلى محرابها.

 

اختار نخبة من الصحفيين والمترجمين، منهم ماجد سرحان، ماهر عثمان، رشاد رمضان من القسم العربي في "هيئة الإذاعة البريطانية"، إلى جانب عبد الله حمودة، ومصطفى كركوتي، ومصطفى الحسيني، وشبكة من المراسلين في عدد من البلدان العربية. وكان بن يدّر أن أمّن تمويل انطلاقة "الاقتصاد العربي" الجديدة من رجل الأعمال طارق بن عمار.

 

وتوليت، بعد الاتفاق مع بن يدر، تنفيذ المجلة من التنضيد والتصحيح، إلى المساعدة في التصميم والتصوير، وإعداد الأفلام، ثم المونتاج، تحضيرًا لألواح الطباعة، بتنسيق كامل مع فؤاد مطر، الذي نجح في إنهاض "الاقتصاد العربي" من كبوتها، لتنافس وتنتشر وتصبح حديث الوسط الاقتصادي والمالي العربي.

 

وكانت تلك فاتحة تعاون بيننا، ترسخت عندما أسس "دار هاي لايت للنشر"، فتعاونا في إصدار مجلة "التضامن"، و"عالم المعارض"، و"الرشاقة"، إلى جانب سلسلة من الكتب التي قامت الدار بنشرها بالاتفاق مع "جامعة كامبردج" العريقة. وسأعود إلى الكلام عن فؤاد مطر وتجربته في النشر متى حان وقتها.

 

عفيف بن يدّر أصبح اليوم صاحب "إمبراطورية إعلامية" موجهة لإفريقيا، وممثل إفريقيا في "المحفل الماسوني البريطاني"، ورئيس نوادي "روتاري" في تونس، وهو يتحكم في مجلس محافظي "البنك الإفريقي للتنمية "، وعلى علاقة قوية بقادة أغلب الدول الإفريقية إضافة إلى علاقاته بصنّاع القرار الاقتصادي والسياسي في واشنطن، حيث تحتضن العاصمة الأمريكية سنويَا مسابقة ضخمة يوزع فيها بن يدر جوائز كبرى على أصحاب المؤسسات المصرفية الإفريقية الناجحة.

 

في إحصاء سنة ٢٠٢٢، وضعت مجلة "فوربس" Forbes عفيف بن يدّر في قائمة أثرياء تونس. ابنته أمينة تدير الآن مجموعة النشر بعدما طاب لها المقام في لندن، من مقر الشركة في ميدانColdbath ، جنوب شرق لندن.

 

الدكتور فؤاد مجلي، واحد من الذين يأنس المرء لهم، ويستصبح برأيهم، نازهُ النفس، طاهر الطوية، أنوف عن كبرياء، يختزن في ذهنه ضروب المعارف، فهو من أصحاب التجارب، ذوي العقول النيّرة، والرؤية الشاملة، والحكمة الخالصة.

 

وقد سبق له أن كان أستاذًا محاضرا للأدب المقارن واللغات والترجمة في "جامعة الإسكندرية". نال درجة الدكتوراه من "جامعة دبلن" في أيرلندا، وترأس ردحًا قسم الترجمة في "جامعة شرق لندن بوليتكنك"، وكان بين المحررين المساعدين في وضع "قاموس أكسفورد" المعروف.

 

والدكتور فؤاد مجلي، إلى ذلك، كان أول من أدخل تدريس اللغة العربية والأدب العربي للأجانب، وحاضر في "مركز دراسات الشرق الأوسط". درّس الأدب الإنجليزي في كلية "ويستمنستر" في "جامعة لندن". وكان أيضًا من الرعيل الأول الذي اشترك في تأسيس الكنيسة القبطية في المملكة المتحدة أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلى جانب رجل الأعمال رشدي صبحي. وهو، إن كان يشد بغرر دينه، إلاّ أنه لم يلوث ضميره بجرثومة التعصب، ظل مصريًا صميمًا.

 

وتمكن الدكتور مجلي أن يصبح حلقة الوصل بين الكنيسة القبطية والمسؤولين البريطانيين، وهذا ما مكّنه، في يناير (كانون الثاني) سنة ١٩٧٩ وبمناسبة تدشين الكنيسة، من ترتيب لقاء قداسة البابا شنودة الثالث بالملكة إليزابيث الثانية في قصر "باكنجهام".

 

ولأنه كان جَلِد على البحث والتنقيب عن معميات التاريخ، يستوعب الآثار حفظًا وفهمًا، وصاحب همّة عالية، اختاره عالم التاريخ الدكتور عزيز سو للاشتراك في إعداد "دائرة المعارف القبطية".

 

في الكتابة كان نادرة زمانه، البراعة بين أصبعيه تسبك الأحرف، يمعن في البحث، ويمعن النظر في كل ما يتناوله، يخرج من بحثه بالرأي البنّاء، الصائب والدقيق، لغة في أعلى مراتب الصحة، والرونق، والضبط.

 

تعاونت معه في إصدار كتبه وطباعتها وتوزيعها، وبعضها نفد، وطبع منه طبعات متتالية.

 

… وللطالح حدوتة وحكاية …الأسبوع القادم

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز