عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الصالح والطالح! (3/3)

الغربة الثانية 33

الصالح والطالح! (3/3)

ما عرفت من متفنني الحديث مثله. إن أصغيت إليه في جلسة أنس وسمر، تراه من ألطف الناس خروجًا إلى النوادر.



 

وهو يملك القدرة على التخفي، وإخفاء ما يضمر، بما هو أشبه بالتقية.

 

وجهان له، الظاهر ودود، طيب، أنيس، والمخفي ماكر، خادع، عليك محاذرته.

 

ذلك هو نهاد الغادري، ابن حلب، وقد صادف أن التقيته في مكتب قدري القلعجي، وهات بعدها يا حديث عن دمشق التي كانت، وكانت…

 

وتعددت لقاءاتي به، وضربنا مواعيد للسهر والسمر، وأصبح مع توالي الأيام "صديق العائلة".

 

ولم يمض كثير وقت، حتى بدأت تتكشف أمامي حقيقة الرجل وتلوّنه:

فهو لجأ إلى بيروت التي لا ترد بابها في وجه مستجير، هربًا من دمشق. وفي العاصمة اللبنانية، التي كانت مطبعة العرب، نشر سنة ١٩٥٨ أول كتبه السياسية:

 

"الكتاب الأسود في حقيقة عبد الناصر وموقفه من الوحدة والاشتراكية وقضية فلسطين".

 

واستغرب من عرفوه، فالرجل كان من الحمسين للرئيس جمال عبد الناصر وللناصرية. وأسهم من إذاعة دمشق وبصوته، في دعم نظام الرئيس المصري. لكنه انقلب عليه، عندما أدرك أن الناصرية في دمشق إلى أفول، فمال بكفة الميزان إلى المملكة العربية السعودية التي كانت، زمنذاك، تناصب عبد الناصر العداء.

 

واعتبر، بشكل سافر، أن عذره الوحيد في خديعته بالرئيس المصري، هو إيمانه بقضية أمته، ولا تسل، يا رعاك الله، عن أي أمة كان يتحدث.

 

وما عزز عندي الظن بأنه يعمل مع الاستخبارات السعودية، استشرافه لما وقع في لبنان قبل وقوعه.

 

فقال لي ذات ليلة، وكنا في مقهى "دولتشي فيتا" في الروشة، بصوت مليء بهمهمات الذعر:

 

"سيأتي زمن، وهو قريب جدًا، لن يبقى حجر على حجر في هذا البلد".

 

قرأ في عيني الدهشة والاستغراب:

 

"لا يريدون في المنطقة بلدًا مثل لبنان، يزعجهم كل شيء فيه، حريته، ثقافته، مدارسه، جامعاته، ثقافته، مستشفياته، تقدم الطب فيه، تنوعه وتعدده".

 

وتعجل الاستدراك:

 

"إنهم يتحضرون لتفجير هذا البلد، وكلامي ليس بخلفية أي خصومة سياسية. نصيحتي لك، اتركه، غادره، غادره يا صديقي، فهو لم يعد آمنًا"!

 

 

دارت عينا نهاد الغادري في وجهي هنيهات، لملم من ملامحي حيرتي من كلامه، ثم أشاح بوجه، وغرس نظره في عتمة الليل، تنهد تنهيدة عميقة، وقمنا نمشي.

 

 

وعرفت بعدها، أنه غادر بيروت إلى باريس، ولم تمض أشهر قليلة على ليلة "دولتشي فيتا"، حتى اشتعل لبنان، ورحلنا مع الراحلين عن البلد الذي أحببت.

 

 

وتدور الأيام دورتها المتعجلة، ويغيب نهاد الغادري عني، وعن بالي، إلى أن تفاجأت ذات صباح باتصال هاتفي، وطلب اللقاء، فكان له ما أراد، والتقينا في المكتب في "سان جيمس".

 

 

أخبرني انه اشترى من الدكتور نبيل المغربي- شقيق أرملة هشام أبو ظهر- امتياز "جريدة المحرر" التي كان المغربي، بعد تركه إدارة تحرير "الوطن العربي"، قد أصدرها بحجم "تابلويد" على نهج جريدة Enchaîné Le Canard الساخرة التي تخصصت في نقد الرؤساء والمسؤولين، ونجحت خلال سنوات صدورها المديدة (أسسها موريس ماريشال وزوجته جان سنة ١٩١٥، ولا تزال تصدر في باريس كل يوم أربعاء)، وأنه أضاف إلى اسمها كلمة "العربي"، فصار اسمها "المحرر العربي"... وذكر لي أنه على خلاف مع المملكة السعودية، وأن الملك فهد، بعدما كان مستشاره الأقرب إليه، غاضب منه وقد أصدر إرادة ملكية إلى السفارة السعودية لدى باريس، بالامتناع عن تجديد جواز سفره السعودي، وحرمانه من "الشرهة" الشهرية التي كان ينالها.

 

 

ولم يجد وسيلة، إلا انتهجها وجرّبها، وما نفعت رسائل الاسترحام في تليين موقف خادم الحرمين الشريفين. فكان لا بد من اللجوء إلى ما يسميه الفرنسيون "شانتاج" Chantage، (في كتابه "في الهواء الطلق"، عرّب الكاتب اللبناني أمين) نخلة الكلمة، فقال إنها "الاعتصار"، من اعتصر العنب أو الثوب ونحوهما، بمعنى: عصره). وقدّم لي عرضا حاول إقناعي به لأن فيه فائدة مزدوجة لي وله.

 

 

فتح ملفًا أخرجه من حقيبة "سامسونايت"، ولوّح بأوراق مكتوبة بخط اليد، قال إنها مسودة لكتاب يفضح فيه الحكم السعودي وينشر أسراره. وكل ما عليّ القيام به، هو الاتصال بالملحق الصحفي السعودي، وتسريب معلومات عن الكتاب الذي ينوي الغادري نشره، وهو على يقين أنه منعًا للفضائح، ستسارع المملكة إلى إسكاته، بإعادة كل الامتيازات التي سُحبت منه، مع مبلغ سيكون لي ولشركتي حصة فيه، مع "حبّة مسك"، كما قال.

 

طار صوابي، لم يدر في خلدي لحظة واحدة أن يتجرأ الغادري على مفاتحتي بمثل هذا الموضوع، وهو العارف تمامًا أنني لست من الذين يستخدمون مثل هذه الأساليب السوقية، القذرة، لجني المال. وأدركت أنه رجل أصل طباعه، السهولة، مثل "الصندل" البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حارا مؤذيًا... بذيء القلم، فاحشًا، يلذع في الأعراض، فبسط قلمه بالملك فهد، ولم يبق عليه سترا مغطى.

 

 

وغادر الغادري مكتبي غاضبًا. وانقطعت علاقتي به وبالتالي أخباره.

 

 

وتفاجأت أن الغادري غدر بالملك، ونشر في مجلة "سوراقيا"، العدد ٤٦٨ الصادر في ٣ أغسطس/آب ١٩٩٢، موضوعًا بعنوان: "ملك التنصت"، ذكر فيه أن الملك فهد كلفه بشراء أجهزة تنصت وتجسس، حتى يستخدمها الملك للتجسس على إخوانه ونسائهم، وبعض أهل بيته!

 

 

وبلغني أنه أصدر في باريس عام ١٩٩٣ بعد وفاة الملك فهد كتابًا بعنوان "الجهل ملكًا" على نفقته الخاصة، ضمّنه ما كان نشره في مجلة "سوراقيا"، وكانت مجلة صديقه غسان زكريا، الذي لا بد أن يكون وطّن النفس، هو الآخر، بجعالة أو حصة مما قد يجنيه الغادري.

 

 

ولم تتوقف محاولات الغادري في التقرب للمملكة السعودية، فقد كتب نهاد الغادري رسالة إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز عام ٢٠١٤:

"واثق من أن أحدَا لن يطلعك على هذه الرسالة ولكنني أكتبها دفعا لما يمكن أن يقال فيما بعد من أنك لم تعرف وأن أحدا لم يقل لك. وأختصر:

 

 

لقد ظُلمت. ظلمني ولدك عبد العزيز. أغلق المحرر العربي ويعرف لماذا. فإن نفى أعدت نشر النص الذي أوقفت الصحيفة به فهو عندي. كان لإحداهن في دمشق دور في إغلاق المحرر العربي دفعته له في ليلة أنس. اليوم تخوضون معركة حياة مع النظام.. وما زلت أدفع الثمن. ما زال الأنس فاعلا.

 

 

لا أريد شيئا. لي دين عند وزير الإعلام يعرفه وأريده وينتهي الأمر. غير ذلك سأدافع عن حقي بما أعرف حتى النفس الأخير.

 

 

وأختم: لقد أبلغتكم علنا بما يخفيه عزيزكم عنكم. وأقول: إذا أخذت حقي فلن تروا مني إلا الخير، وإذا تعذّر أقول من لا يدافع عن حقه لا يعرف الكرامة وليس مسلما.. ولست أنا. شعاري معكم العدل، أو القتل.

 

 

أرجو أن يجرؤ أحدهم على إبلاغك ذلك، لأن الكل يخشاك، وأن يتسع وقتك المثقل لسؤال عبد العزيز خوجة عنه، وأذكر منه وعنه الخير.

 

لا أريد تعويضا عن سنوات العمر. لا أتسول حقا. لا أطلب شرهة. لا أريد شيئا. إذا وصلني أكثر من حقي أعدته شاكرا. أريد أن أدفع ثمن دوائي من حق لي سبق ويخشى خوجة من ولدك العزيز، الذي ما زال يتواصل سرا مع نظام الأسد، أن يدفعه.

 

مع ما يفرضه التاريخ من واجب الاحترام."

 

نهاد الغادري

آخر ما عرفته عن نهاد الغادري، ما قرأته في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي سنة ٢٠١٧، فهو- حسب المكتوب- أقام في أحد المستشفيات اللبنانية، وأن عائلته وزوجته الأولى "أنصاف" السورية وابنه الوحيد فريد، وبناته سمر والتوءم ربا وندا الذين يعيشون في الولايات المتحدة، أصدروا بيانًا أعلنوا فيه تخليهم عنه.

 

ثم جاء من حكى أن أقاربه يفتشون عمن يفيدهم عن مصيره، فهم فقدوا الاتصال به، وليست لديهم أي معلومات عن مصيره!

 

ابن عمه الصحفي المعارض محمود الغادري، كتب في موقع له على شبكة إنترنت، أن أهله فقدوا الاتصال به منذ أشهر أثناء علاجه في "مستشفى العمر الطويل" في بيروت الذي دخله قبل عام، للعلاج من مرض السكري…

 

وأكد أن نهاد الغادري كان يعاني من مضايقات داخل المستشفى بسبب ما كان ينشره في "المحرر العربي" التي كان يصدرها في بيروت، من انتقادات للأوضاع العربية، خصوصًا ما يجرى في سوريا وكشفه كعادته خفايا غير معروفة للناس عن الأنظمة العربية التي خَبرها عن قرب، ولذلك– كما يقول- كانت تأتيه تهديدات من النظام السوري ومن "حزب الله" في لبنان... وأعرب عن تخوفه من أن يكون قريبه مختطفًا ومحجوزًا في أقبية "حزب الله"، خصوصًا أن إدارة المستشفى ترفض السماح لأحد بزيارته أو الإدلاء بأي معلومات بخصوص وضعه الصحي والإنساني.

… وسقط شخص من طريقي في رحلة الغربة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز