عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

قصة ثورة 23 يوليو كما رواها الرئيس عبد الناصر لمراسل "الصنداي تايمز ".. حوار نادر يكشف مفاجآت وأسرارًا

 نُعيد نشر حوار نادر للزعيم الراحل جمال عبد الناصر مع مندوب صحيفة "الصنداي تايمز"، في الذكرى العاشرة لثورة يوليو، نُشر 18 يونيو 1962، سرد فيه الزعيم الراحل قصة الثورة من الألف للياء، وشهادته عنها، وأبرز أسرارها التي لا يعلمها الكثيرون.



 

تحدث الرئيس عبدالناصر عن أول مظاهرة شارك بها، وعن والديه، وسر كرهه للصهيونية، وأسرار الثورة والكثير من الأسرار في هذا الحوار.

 

وإلى نص الحوار:

 

 

- "دافيد مورجان": لقد مضت الآن عشر سنوات؛ منذ أن قام نحو تسعين من ضباط الجيش المصري بإنهاء النظام الإقطاعي في وطنهم، وبالاستيلاء على السلطة في بلادهم بين يوم وليلة؛ بعد انقلاب كاد أن يكون بلا قطرة من الدماء. وقد كانت هذه السنوات العشر سنوات من الثورة المستمرة، ومن التغيير المتصل، وهذه العملية التاريخية لا تزال مطردة؛ لكن لعل الوقت الحالي هو أنسب الأوقات للتطلع إلى الخلف؛ لا إلى أحداث هذه السنوات العشر الأخيرة وحدها، بل إلى ما هو أبعد من ذلك.. إلى بداية تكوّن الإحساسات الثورية لديكم.

 

• الرئيس: كثيراً ما سئلت هذا السؤال: متى أصبحت ثورياً لأول مرة؟ وهو سؤال تستحيل الإجابة عنه؛ فهذا الشعور أملته ظروف تكويني وتنشئتي، وغزاه شعور عام بالسخط والتحدي؛ اجتاح كل أبناء جيلي في المدارس والجامعات، ثم انتقل إلى القوات المسلحة.

 

ومازلت أذكر بوضوح أول صدام لي مع السلطة.. كان ذلك في سنة ١٩٣٣، وكنت يومئذ تلميذاً في الإسكندرية لم أبلغ بعد الخامسة عشرة من عمري، وكنت أعبر ميدان المنشية في الإسكندرية حين وجدت اشتباكاً بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد في تقرير موقفي؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أي شيء عن السبب الذي كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أنني في غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفراداً من الجماهير في صدام مع السلطة، واتخذت موقفي دون تردد في الجانب المعادي للسلطة.

 

ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف؛ لكن سرعان ما جاءت إلى المكان الإمدادات؛ حمولة لوريين من رجال البوليس لتعزيز القوة، وهجمت علينا جماعتهم، وإني لأذكر أني - في محاولة يائسة - ألقيت حجراً، لكنهم أدركونا في مثل لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكني حين التفت هوت على رأسي عصا من عصي البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسي مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية.

 

ولما كنت في قسم البوليس، وأخذوا يعالجون جراح رأسي، سألت عن سبب المظاهرة، فعرفت أنها مظاهرة نظمتها جماعة مصر الفتاة في ذلك الوقت؛ للاحتجاج على سياسة الحكومة.

 

وقد دخلت السجن تلميذاً متحمساً، وخرجت منه مشحوناً بطاقة من الغضب، وقد مضى بعد ذلك زمن طويل قبل أن تتبلور أفكاري ومعتقداتي وخططي، ولكن حتى في هذه المرحلة الباكرة كنت أعلم أن وطني يخوض صراعاً متصلاً من أجل حريته.

 

- "مورجان": سيدي الرئيس.. ماذا عن نشأتك الأولى وجو الأسرة الذي عشت فيه مرحلة الطفولة؟

 

• الرئيس: إنني الابن الأكبر لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة، وقد كان أبي موظفاً صغيراً في مصلحة البريد، يبلغ مرتبه الشهري نحو عشرين جنيهاً، وهو مرتب يكفي بصعوبة لسد ضرورات الحياة.

 

وقد ولدت في الإسكندرية؛ لكن ذكرياتي الأولى تدور حول قرية الخطاطبة، وهي قرية تقع بين القاهرة والإسكندرية؛ حيث كان أبي يعمل وكيلاً بالبوستة، وكنا دائماً أسرة سعيدة يحكمها أبي، ولكن القوة الحافظة فيها كانت أمي التي كنت أنا وإخوتي نتفانى في حبها.

 

وكان أبي قلقاً بسبب آرائي السياسية حتى في أيام التلمذة؛ فقد سجن أخوه أيام الحرب العالمية الأولى بتهمة الإثارة السياسية، ولذا كانت مخاوفه أن يحل بي ما حل بعمي مخاوف طبيعية؛ فقد كان أمله أن نحيا جميعاً حياة آمنة بعيدة عن المزعجات.

 

ولكني بعد اشتراكي في المظاهرة السياسية الأولى دخلت الميدان بكل جوارحي، وأصبحت رئيس لجنة لتنظيم المقاومة، ولاسيما مقاومة السيطرة الأجنبية، وكنا نجوب شوارع الإسكندرية بالمظاهرات الساخطة، ولقد كان ذلك متنفساً لابد منه لعواطفنا الحادة ولشعورنا بالكبت الذي يضغط على وطننا.

 

وفي نهاية الأمر ضاق المسؤولون في المدرسة ذرعاً بنشاطي، ونبهوا أبي؛ فأرسلني إلى القاهرة لأعيش مع عمي، وألتحق بمدرسة أخرى هناك.

 

- "مورجان": لقد ذكر عدد كبير من الذين تعرضوا لكتابة قصة حياتكم أن مشاعركم الأولى المعادية لليهود تكونت هذه الفترة؛ فلقد كانت في نفس البيت الذي يسكنه عمكم بعض الأسر اليهودية؟

 

• الرئيس: هذا رأي أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فأنا لم أكن في أي يوم من الأيام معادياً لليهود على المستوى الشخصي، ومن العسير على أي مصري متعلم أن يكون كذلك. لقد كانت بيننا وبين اليهود - كشعب - روابط عديدة؛ فنبي الله موسى نفسه كان مصرياً، وشعوري المعادي لإسرائيل وأعمالي الموجهة ضدها؛ إنما تولدت فيما بعد من شيء واحد لا سواه؛ وهو الحركة الصهيونية التي اغتصبت جزءاً من الأرض العربية.

 

- "مورجان": إن الذين كتبوا تاريخكم أيضاً يقولون إنه في تلك الفترة وقعت لكم صدمة نفسية!

 

• الرئيس: ذلك صحيح، ففي تلك الفترة حدث لي حادث أثر في عواطفي أكثر من أي شيء آخر في تلك السنوات الباكرة.. فقد كان أبي مصراً على معارضة مشاعري وأعمالي الثورية، أما أمي فقد كانت تنظر إلى السياسة نظرها إلى شيء لا يعنيها، وكانت العلاقة القائمة بيننا هي مجرد علاقة الحب الخالص الذي يربط بين الأم وولدها.

 

ولم أكن أفرط في رحلاتي لزيارة أسرتي، لكن حين انقطعت أنباء أمي فترة من الزمن سافرت لزيارة الأسرة، ولما بلغت البيت لم أجد لها أثراً، وعلمت أنها قد ماتت قبل ذلك بأسابيع، ولم يجد أحد الشجاعة الكافية لإبلاغي بموتها، ولكني اكتشفت موتها بنفسي بطريقة هزت كياني.

 

وعدت لفوري إلى القاهرة؛ حيث كرّست نفسي لنشاطي السياسي بصورة أعنف من ذي قبل، وخفف الزمن صدمتي، ولكنني ظللت مبتعداً عن أسرتي لعدة سنوات؛ فقد كان فقد أمي في حد ذاته أمراً محزناً للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت في شعوراً لا يمحوه الزمن، وقد جعلتني آلامي وأحزاني الخاصة في تلك الفترة أجد مضضاً بالغاً في إنزال الآلام والأحزان بالغير في مستقبل السنين.

 

- "مورجان": إن بعض المؤرخين يقولون إن بحثكم عن مجال للعمل السياسي قادكم إلى محاولة واسعة لاستكشاف الأحزاب السياسية العاملة في مصر ذلك الوقت!

 

• الرئيس: في سنوات التكوين هذه شغلت اهتمامي كل الأحزاب السياسية التي كان هدفها الأول أن ترد للشعب المصري حريته، وقد انضممت مدة عامين بعد مظاهرة الإسكندرية إلى جماعة مصر الفتاة، ولكني تركتها بعد أن اكتشفت أنها رغم دعواها العالية لا تحقق شيئاً واضحاً.

 

وقد فوتحت في عدة مناسبات للانضمام للحزب الشيوعي، لكني رغم دراستي للمذهب الماركسي، ولكتابات "لينين"؛ وجدت أمامي عقبتين أساسيتين.. عقبتان كنت أعلم أنه لا سبيل إلى التغلب عليهما؛ العقبة الأولى هي أن الشيوعية في جوهرها ملحدة؛ وقد كنت دائماً مسلماً صادقاً، أؤمن إيماناً لا يتزعزع بوجود قوة فوق البشر؛ هي الله الذي يهيمن على كل مصائرنا، ومن المستحيل على أي إنسان أن يكون مسلماً صادقاً وشيوعياً صادقاً.

 

أما العقبة الثانية، فهي أني أدركت أن الشيوعية معناها بالضرورة سيطرة من نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية، وهذا أيضاً ما كنت أرفضه رفضاً باتاً، وقد كان كفاحي وكفاح زملائي طويلاً وشاقاً لانتزاع السلطة من الطبقات الإقطاعية، ولتحطيم السيطرة الأجنبية على مصر، ولتحقق بلادنا الاستقلال الصادق الذي كانت تحتاج إليه احتياجها إلى أنفاس الحياة؛ وعلى هذا فلقد كان مجرد الظل لسيطرة أجنبية أمراً لا أستطيع أن أقبله.

 

وقد كانت لي اتصالات متعددة بالإخوان المسلمين؛ رغم أني لم أكن قط عضواً في هذه الجماعة، وأحسست بقوة زعيمهم المرشد العام حسن البنا، وهنا أيضاً وجدت أمامي صعوبات دينية؛ فقد كان تصرف الإخوان المسلمين ضرباً من التعصب الديني، وما كنت أرضى لا بإنكار عقيدتي ولا بأن تحكم بلادي طائفة متعصبة. كنت واثقاً من أن التسامح الديني لابد أن يكون ركناً أساسياً من أركان المجتمع الجديد الذي كنت أرجو أن أراه قائماً في بلادي.

 

وتبلورت مشروعاتي لمستقبلي بعد عقد المعاهدة المصرية - الإنجليزية عام ١٩٣٦؛ التي نجم عنها أن حكومة الوفد أصدرت مرسوماً يقضى بفتح الكلية الحربية للشبان؛ بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم، وكنت أنا - مع نفر من الآخرين الذين ظلوا فيما بعد رفقاء حميمين - من بين أول من استطاعوا الانتفاع من هذا الوضع، فالتحقت بالجيش بعد أن كنت أدرس في كلية الحقوق.

 

وتخرجت بعد سنتين في ١٩٣٨ في الكلية الحربية بالعباسية برتبة ملازم ثان، وفي نفس السنة تخرج اثنان من الضباط هما: زكريا محيي الدين، ومحمد أنور السادات؛ اللذان اقترن اسماهما فيما بعد اقتراناً وثيقاً بقصة الثورة.

 

كان الجيش المصري - حتى ذلك الوقت - جيشاً غير مقاتل، وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على حاله، أما بعد ذلك فقد بدأت تدخل طبقة جديدة من الضباط الذين كانوا ينظرون إلى مستقبلهم في الجيش بوصفه مجرد جزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم. وعُينا ثلاثتنا في حامية منقباد، وهي حامية بعيدة بالقرب من أسيوط في الصعيد. وذهبنا إلى منقباد تملؤنا المثل العليا، ولكن سرعان ما أصبنا بخيبة الأمل؛ فقد كان أكثر الضباط عديمي الكفاءة وفاسدين، وقد دفعت الصدمة بعض زملائي من الضباط إلى حد الاستقالة. أما أنا فلم أر جدوى من الاستقالة؛ رغم أن سخطي كان لا يقل عن سخط الآخرين، واتجه تفكيري بدلاً من ذلك إلى إصلاح الجيش وتطهيره من الفساد.

 

وفي عام ١٩٣٩ نُقلت إلى الإسكندرية، وهناك التقيت عبد الحكيم عامر، وكان يشاركني ذلك الاعتقاد الراسخ في الأعماق بضرورة الثورة والتغيير.

 

وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية بزمن وجيز نُقلت إلى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين، وكان ذلك بقصد التدريب لمدة شهر، وكانت هذه أول مرة أحتك فيها احتكاكاً حقيقياً بالبريطانيين كجنود وكأشخاص؛ فتركوا في نفسي أثراً طيباً.

 

ولم يكن هناك أي تعارض بين استطاعتي أن أشعر بشعور ودي نحو عدد منهم على المستوى الشخصي، وأن أحترمهم أيضاً كجنود، وبين شعوري العميق بضرورة التخلص من السيطرة البريطانية، ومن النفوذ البريطاني بأي ثمن؛ فالأول كان شعوراً شخصياً، والآخر كان مسألة مبدأ، وليس هناك علاقة بين الشعورين.

 

وفي هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة في ذهني رسوخاً تاماً، أما السبيل إلى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة، وكنت يومئذ لا أزال أتحسس طريقي إلى ذلك، وكان معظم جهدي - في ذلك الوقت - يتجه إلى تجميع عدد كبير من الضباط الشبان الذين أشعر أنهم يؤمنون في قراراتهم بصالح الوطن؛ فبهذا وحده كنا نستطيع أن نتحرك حول محور واحد؛ هو خدمة هذه القضية المشتركة.

 

- "مورجان": كيف بدأ العمل الجدي في تنظيم الخلايا الثورية؟

 

• الرئيس: كنا بحاجة إلى شيء يجعلنا جميعاً ندرك الضرورة الملحة والحتمية في حركتنا الثورية، فأعطانا الإنجليز ما نحتاج إليه؛ ففي ١٩٤٢ كانت بريطانيا تقاتل وظهرها للحائط، وكانت في الصحراء الغربية الحرب تمر في مرحلة حيوية، وكان البريطانيون مصممين على أن تقوم في مصر حكومة تؤازرهم مؤازرة إيجابية، وذهب السفير البريطاني - "السير مايلز لامبسون" - ليقابل الملك فاروق بسراي عابدين في القاهرة؛ بعد أن حاصر القصر بالدبابات البريطانية، وسلم الملك إنذاراً يخيره بين إسناد رئاسة الوزراء إلى مصطفى النحاس مع إعطائه الحق في تشكيل مجلس وزراء متعاون مع بريطانيا، وبين الخلع، وقد سلم الملك بلا قيد ولا شرط.

 

كان ذلك في ٤ فبراير سنة ١٩٤٢، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد شيء كما كان أبداً، وكنت يومئذ في العلمين حين جاءني هذا النبأ، وما زلت أذكر انفعالي الشديد؛ وقد كتبت في تلك الليلة إلى صديق أقول: ترى ماذا نحن فاعلون بعد هذا الحادث التعيس الذي تقبلناه بتسليم قوامه الخنوع والمهانة. الحقيقة هي أن الاستعمار ليس لديه إلا وسيلة واحدة يرهبنا بها، لكن يوم يدرك الاستعمار أن المصريين مستعدون للتضحية بأنفسهم، فإنه سيتراجع كالجعجاع الجبان.

 

إن حوادث ٤ فبراير قد ألحقت العار بمصر، لكنها رغم ذلك ألهمتنا بروح جديدة؛ فقد أيقظت هذه الحوادث أناساً كثيرين من سلبيتهم، وعلمتهم أن هناك كرامة تستحق أن يدافع عنها الإنسان بأي ثمن.

 

وبالنسبة لي كان عام ١٩٤٥ أكثر من مجرد عام انتهاء الحرب؛ فقد شهد العام بداية حركة الضباط الأحرار؛ تلك الحركة التي أشعلت فيما بعد شعلة الحرية في مصر، ومع ذلك فقد كان ينتظرنا حادث آخر؛ ليتحول استياؤنا وسخطنا المتزايد إلى خطة ملموسة للثورة.

 

وقد ركزت حتى سنة ١٩٤٨ على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين؛ نحاول أن نخرج مثلنا العليا العامة في هدف مشترك وفى خطة مشتركة. وكانت بي رغبة عارمة للمعرفة؛ فأقبلت على الاطلاع بنهم، والتهمت كتب المفكرين من أمثال: "لاسكى" و"نهرو" بل و"أنيورين بيفان".. وبدأت أفكار الاشتراكية تتكون شيئاً فشيئاً.

 

- "مورجان": وكيف تدافع الموج الثوري في مصر خصوصاً مع سنة ١٩٤٨ بأحداثها الخطيرة في فلسطين؟

 

• الرئيس: في مايو ١٩٤٨ أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين، وأحسسنا جميعاً بان اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد ما اعتبرناه انتهاكاً صارخاً لا للعدالة الدولية وحدها، ولكن للكرامة الإنسانية كذلك.

 

وفي دمشق كان يجرى تأليف فرقة من المتطوعين؛ فذهبت إلى مفتى القدس الذي كان لاجئاً يقيم في مصر الجديدة، وعرضت عليه خدماتي وخدمات جماعتي الصغيرة؛ كمدربين لفرقة المتطوعين، وكمقاتلين معها، فأجابني المفتى بأنه لا يستطيع أن يقبل العرض دون موافقة الحكومة المصرية، وبعد بضعة أيام رفض العرض.

 

تضايقت؛ فقد كان هذا يتيح الفرصة أمام الضباط المصرين الشبان ليثبتوا قدرتهم على العمل، وتقدمت بطلب إجازة حتى أتمكن من الانضمام إلى المتطوعين، لكن قبل أن يبت في طلبي أمرت الحكومة المصرية الجيش رسمياً بالاشتراك في الحرب.

 

وكان القرار الذي اتخذته الحكومة هو القرار الصائب، لكن الطريقة التي نفذ بها القرار كانت كارثة.

 

لم يكن هناك تنسيق بين الجيوش العربية، وكان عمل القيادة على أعلى مستوى في حكم المعدوم، تبين أن أسلحتنا في كثير من الحالات أسلحة فاسدة، وفى أوج القتال صدرت الأوامر لسلاح المهندسين ببناء شاليه للاستجمام في غزة للملك فاروق.

 

وقد بدا أن القيادة العليا كانت مهمتها شيئاً واحداً؛ هو احتلال أوسع رقعة ممكنة من الأرض بغض النظر عن قيمتها الاستراتيجية، وبغض النظر عما إذا كانت تضعف مركزنا العام في القدرة على إلحاق الهزيمة بالعدو خلال المعركة أم لا. وقد كنت شديد الاستياء من ضباط الفوتيلات أو محاربي المكاتب الذين لم تكن لديهم أية فكرة عن ميادين القتال، أو عن الآم المقاتلين.

 

وجاءت القطرة الأخيرة التي طفح بعدها الكيل؛ حين صدرت الأوامر إلىّ بأن أقود قوة من كتيبة المشاة السادسة إلى عراق سويدان التي كان الإسرائيليون يهاجمونها، وقبل أن أبدأ في التحرك نشرت تحركاتنا كاملة في صحف القاهرة، ثم كان حصار الفالوجا الذي عشت معاركه؛ حيث ظلت القوات المصرية تقاوم رغم أن القوات الإسرائيلية كانت تفوقها كثيراً من ناحية العدد، حتى انتهت الحرب بالهدنة التي فرضتها الأمم المتحدة.

 

وقد قتل القائم قام أحمد عبد العزيز الذي كان قائداً للمتطوعين أثناء هذه الحملة؛ حين هوجمت سيارته وهو في طريقه إلى اجتماع في القدس، وكان أحمد عبد العزيز يقول دائماً: "إن المعركة الحقيقية في مصر ".

 

كذلك أوشكت أنا أيضاً أن أُقتل في الحرب؛ فقد جرحت مرتين، وفى المرة الثانية مرت الرصاصة بما لايزيد عن خمسة سنتيمترات تحت قلبي، وبينما كنت طريح الفراش في المستشفى كانت أفكار كثيرة وتأملات تمر في خواطري.

 

- مورجان: يبدو أن الحوادث أسرعت كثيراً بعد حرب فلسطين

 

• الرئيس: لقد اتضح لي عندئذ أن المعركة الحقيقية هي بالفعل في مصر؛ فبينما كنت ورفاقي نحارب في فلسطين، كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة وباعوها للجيش. ولقد كان من الضروري تركيز الجهود لضرب أسرة محمد على؛ فكان الملك فاروق هو هدفنا الأول من نهاية ١٩٤٨ إلى ١٩٥٢، وأقمنا تنظيمنا ونسقنا نشاطنا ببطْء، ونشبت في منطقة القنال حرب عصابات لتدمير المنشآت البريطانية، وكنت أعلم أن عدم قيامنا بأية محاولة كبرى للاستيلاء على السلطة قبل أن نستعد تماماً أمر حيوي بالنسبة لنا، وكان في نيتي أن نحاول القيام بثورتنا في سنة ١٩٥٥، لكن الحوادث أملت علينا قرار القيام بالثورة قبل ذلك بكثير.

 

وإزاء تطورات الحوادث العنيفة المتوالية في بداية سنة ١٩٥٢؛ كانت هناك فكرة ترى أن الحل الوحيد هو اغتيال أقطاب النظام القديم، وبدأنا باللواء سرى عامر؛ وهو أحد قواد الجيش الذين تورطوا تورطاً خطيراً في خدمة مصالح القصر، ومع أن ميولي الطبيعة كلها كانت معارضة لهذه السياسة؛ فقد أخذت على عاتقي مسؤولية أول محاولة.

 

وكانت ليلة لا تنسى؛ فقد اختبأت أنا وزملائي الذين اخترتهم ليقوموا بالمحاولة معي تحت أسوار الشجيرات المحيطة بفيلا اللواء، وحين خرج من سيارته أطلق النار عليه اثنان من زملائنا كانا على استعداد بالمدافع الرشاشة، ولما جرينا لنلتمس الهرب لاحقني عويل سيدة يمزق القلب وصرخات مذعورة.

 

ولم أذق للنوم طعماً في تلك الليلة؛ فقد كنت أفكر فيما فعلته، وإني لأتذكر أنى صليت لله راجياً ألا يموت، وغمرتني روح الارتياح عندما قرأت في صحف الصباح أنه لم يصب حتى برصاصة واحدة. وكانت هذه هي محاولة الاغتيال الأولى والأخيرة التي قمت بها، وقد وافقني الجميع على العدول عن هذا الاتجاه، وصرف الجهود إلى تغيير ثوري إيجابي.

 

واشتد التوتر درجة درجة؛ حتى بلغ قمته، وهنا بدأت معركة التعبئة الثورية، وبدأنا نوالي إصدار منشورات " الضباط الأحرار"، وكنا نطبعها ونوزعها سراً.

 

وكانت الأحداث تتطور بسرعة لا نملك السيطرة عليها؛ كان السياسيون يتراشقون بالاتهامات، وبدأت الجماهير تعبر عن غضبها وسخطها علناً. وفي ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢ حدثت مأساة حريق القاهرة، ولم تتخذ السلطات أي إجراء، النحاس رئيس الوزراء لزم داره في جاردن سيتى، وظل الملك فاروق في قصر عابدين لا يحرك ساكناً، ولم تصدر الأوامر للجيش بالنزول إلا في العصر، بعد أن دمرت النار أربعمائة مبنى أنزلت بها خسائر فادحة، وتركت١٢ ألف شخص بلا مأوى، وقد بلغت الخسائر ٢٢ مليون جنيه.

 

ومن الصعب تحديد من يستحق اللوم في هذه المأساة؛ فقد بدأ اليوم بمظاهرة عنيفة قامت بها بعض الجماعات المتطرفة؛ لكن السخط الجماهيري سيطر عليها بعد ذلك، فخرج الزمام من يد أي تنظيم، وكان تردد الحكومة هو المسؤول المباشر عن تدمير المدينة، وتدهورت الأمور من سيئ إلى أسوأ؛ فتألفت وزارتان ثم خرجتا من الحكم، ولم يبد على الملك ما يدل على استعداده لإيجاد حل للموقف، وهكذا وجدنا أنفسنا في وضع المعارضة الصريحة له.

 

- "مورجان": فيما فهمت فلقد كان الصراع العلني السافر بين الضباط الأحرار وبين الملك هو أزمة انتخابات نادي ضباط الجيش

 

• الرئيس: كان ذلك صحيحاً؛ فقد تملك الملك الجزع من أن يصبح النادي مركزاً للتمرد؛ فصمم على أن يكون الرئيس الجديد مرشحاً من مرشحيه؛ وهو اللواء حسين سري عامر.

 

وكنت لا أقل عنه تصميماً على الحيلولة دون وقوع ذلك؛ فرشحت أنا وزملائي من جماعة الضباط الأحرار اللواء محمد نجيب؛ الذي كان أحد اللواءات المعروفين في الجيش المصري، وقمنا بالدعاية له دعاية واسعة، وتم انتخاب اللواء نجيب بأغلبية كبرى، لكن الانتخاب أُلغى بتعليمات من الملك شخصيا. وكان الملك والحكومة قد انتقلوا في هذه الأثناء كالعادة كل صيف إلى الإسكندرية، ورغم كل ما بذلتاه من جهود للاحتياط، فقد أصبح معروفاً عند مستشاري الملك أن شيئاً ما بسبيل أن يحدث، ومن المؤكد أن جهودهم في البحث والتقصي زادت واشتدت.

 

وحل الملك اللجنة التنفيذية لنادي الضباط، وأصدر وزير حربيته قراراً بتعيين اللواء نجيب مديراً لسلاح الحدود بالقاهرة، كما نقل كثير من الضباط إلى مراكز نائية خبطاً في الظلام.

 

ولقد أحسست أن تأخير محاولتنا القيام بثورتنا حتى سنة ١٩٥٥ مسألة مستحيلة؛ فإن الحوادث تتحرك بسرعة، والاستعداد الثوري أصبح متحفزاً، ثم أن هيبة فاروق كانت في الحضيض، لقد قدرت أن الموقف ساعتها مناسب للقيام بانقلاب إذا عرفنا كيف ننفذه بسرعة وبكفاءة.

 

وفي منتصف شهر يوليو دعوت الموجودين في القاهرة من أعضاء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار إلى اجتماع، وأبلغتهم بأن احتمالات القيام بالثورة مفتوحة للنجاح، ولم يكن من رأيي إعدام الملك؛ فقد كنت أحس أن إراقة الدماء تؤدى إلى مزيد من الدماء، وكنت أريد للثورة أن تضع المقاييس التي ستحاسب دائماً بها.

 

وفي وضع خطتي الأساسية كانت أمامي جملة مشاكل، ولم أهتد إلى حل لبعض هذه المشاكل إلا بعد أن بدأنا فعلاً.

 

من هذه المشاكل - على سبيل المثال - مشكلة الحرس الملكي الذي كان مؤلفاً من نحو ست كتائب، وهذه تفوق بعددها كثيراً مما كنت أستطيع أن أعتمد عليهم من الرجال، لم أكن أعرف كيف يتصرف الحرس الملكي، كذلك كان من مصادر قلقي احتمال تدخل البريطانيين أو الأمريكيين في جانب الملك.

 

ومن مشاكلي أيضاً أن كثيرين من الضباط الأحرار كانوا في أماكن نائية لا تمكنهم من مساعدتنا، ولم يكن في القاهرة إلا ثلاثمائة ضابط يمكن أن يناصرونا بصورة محققة. ولقد قررت ألا أشرك الكثيرين من هؤلاء إشراكاً إيجابياً؛ فقد كان الاحتياط أمراً جوهرياً لنجاحنا، ومن ناحية أخرى فلقد تصورت أنه ربما كان خيراً لو تركنا قوة أخرى من زملائنا تغلي قلوبها بالثورة؛ لتواصل العمل إذا ما أخفقت محاولتنا.

 

ورسمت الخطة الأساسية بعد اجتماعات عقدناها في بيوت عدد منا، وسلمتها لعبد الحكيم عامر ليضع تفاصيلها، وكنا نريد أن نبدأ في التنفيذ بعد ٢٤ ساعة؛ أي في ليلة ٢١ يوليو، لكن كان من المحال استكمال خطتنا على هذا الأساس، وبناء عليه أجلت ساعة الصفر إلى الساعة الواحدة صباح ٢٣ يوليو.

 

- "مورجان": لقد كانت ليلة مثيرة دون شك، ولا بد أن ذكرياتها ستبقى زماناً طويلاً، فهل نستطيع أن نعرف الخطوط الرئيسية في سير الأحداث تلك الليلة؟

 

• الرئيس: في نحو الساعة العاشرة من مساء ٢٢ يوليو جاء إلى بيتي ضابط من ضباط المخابرات وعضو من جماعتنا، وإن كنا لم نخطره بما اعتزمنا القيام به؛ لتحذيري بأن القصر قد تسرب إليه نبأ استعداد الضباط الأحرار للتحرك، وأنه قد اتصل برئيس أركان حرب الجيش، الذي دعا إلى عقد اجتماع عاجل في الساعة الحادية عشرة لاتخاذ الإجراءات ضدنا.

 

وكان لابد من اتخاذ قرار فوري؛ فلو أننا تركنا كل شيء ليتم في ساعة الصفر المتفق عليها، وهي الواحدة صباحاً؛ فقد يدركوننا قبل أن ندركهم، ومن ناحية أخرى كانت الأوامر قد وزعت، وكان من أصعب الأمور الاتصال بكل من له صلة بالموضوع.

 

وانضم إلينا ضباط المخابرات، وخرجت مع عبد الحكيم عامر لنجمع بعض القوات من ثكنات العباسية، ووصلنا متأخرين؛ فقد وجدنا أن البوليس الحربي قد أغلق الثكنات، فمضينا إلى ثكنات الفرسان والمصفحات، فوجدنا أيضاً أنهم سبقونا، وكان البوليس الحربي يحرس كل المداخل.

 

وبدا للحظات أن خطتنا كلها في خطر، ولم يبق على ساعة الصفر إلا تسعين دقيقة، وبدا أن خطة الثورة كلها تدخل في مرحلة من تلك المراحل الخطيرة في التاريخ؛ عندما تتدخل قوى أكبر منا لتوجيه الحوادث.. ولقد تأكد لي من تطورات الأمور أن عناية الله كانت تلك الليلة معنا.

 

فقد انطلقنا لنتوجه إلى ثكنات ألماظة كحل أخير، وكنت أسير بسيارتي الأوستين الصغيرة ومعي عبد الحكيم عامر، وفى طريقنا التقينا بطابور من الجنود قادمين في نفس الطريق تحت الظلام، وأخرجنا الجنود من السيارة، وألقوا القبض علينا؛ لكن الجنود كانوا في الحقيقة من قوات الثورة، وكانوا ينفذون أوامري بإلقاء القبض على كل الضباط فوق رتبة القائم قام دون مناقشة، ولم يكن الجنود يعرفون من أكون فتجاهلوا كل كلامنا لمدة عشرين دقيقة تقريباً، كل دقيقة منها أثمن ما يكون. ولم تصدر الأوامر فوراً بإطلاق سراحي وسراح عبد الحكيم عامر، إلا حين تقدم البكباشى يوسف صديق قائد المجموعة وأحد زملائي المقربين ليستطلع سر الضجة، ولم أسعد لرؤية أحد في حياتي كما سعدت حين رأيت يوسف صديق يخرج من الظلام؛ فقد تحرك في الوقت المحدد له، وكان ينتظر حتى تحل ساعة الصفر المعينة ليبدأ الهجوم.

 

وانضممنا إلى الطابور، وقررت ألا ننتظر، واتجهنا فوراً إلى القيادة، وكانت قواتنا لا تزيد عن قوة سرية، لكن عنصر المفاجأة كان في جانبنا.

 

لقد اعتقلنا في الطريق عدداً من قادة الجيش الذين كانوا يحضرون الاجتماع في القيادة لتوجيه الضربة ضدنا.

 

وحدثت مقاومة قصيرة خارج القيادة، ثم اقتحمنا مبنى القيادة نفسه، ووجدنا رئيس هيئة أركان حرب، وكان على رأس المائدة يضع مع مساعديه خطة الإجراءات التي ستتخذ ضد الضباط الأحرار، وقبضنا عليهم جميعاً.

 

وفي الساعة الثالثة صباحاً؛ التقت نفس مجموعة الضباط الذين كانوا قد التقوا قبل ذلك بعدة أيام - التقوا من جديد - لكن التقاءهم هذه المرة كان في حجرة الاجتماعات بالقيادة العامة، وأوفدت من يجيء باللواء محمد نجيب الذي كنا قد فاتحناه قبلها بيومين في احتمال انضمامه إلينا إذا ما نجحت المحاولة، ولم نكن قد أطلعناه على أحداث الليلة، لكن تبين لنا أنه كان له علم سابق بما حدث.

 

فقد اتصل به وزير داخلية الملك تليفونياً في الإسكندرية قبل ذلك بنصف ساعة؛ ليستفسر منه عما يجرى، وأمكنه أن يجيبه بأنه لا علم له بشيء، دون أن يكون كاذباً في كلامه.

 

كان نجاحنا تاماً في الخطوات الأولى، وبقى أن نستوثق تماماً أن الملك لن يتمكن من تنظيم هجوم مضاد. وفي الصباح أجرينا اتصالاً بالسفارة الأمريكية أولاً، ثم السفارة البريطانية لإبلاغهما أن الضباط الأحرار استولوا على السلطة، وأن كل شيء يجرى في نظام تام، وأن حياة الأجانب وممتلكاتهم ستؤمن ما لم يحدث تدخل خارجي.

 

وفي السابعة صباحاً أعلنا على الشعب المصري من محطة الإذاعة نبأ عزل الوزارة المصرية، وأن البلاد أصبحت أمانة في يد الجيش، وأن الجيش أصبح الآن تحت إشراف رجال يستطيع الشعب أن يثق ثقة تامة في كفاءتهم ونزاهتهم ووطنيتهم، وكان الملك قبل ذلك بنصف ساعة قد سأل قائد جيشه عما يجرى من أمور؛ فأجابه قائلاً: مجرد عاصفة في فنجان يا صاحب الجلالة!

 

والآن واجهتنا مشكلة كيف سيتصرف الملك، وكان من رأى بعضنا محاكمته وإعدامه، وكنت لا أزال على تصميمي أن تكون الثورة بيضاء ما أمكن ذلك، وقد كنت أرى إخراج الملك من البلاد على وجه السرعة.

 

ولجأ الملك إلى السفير الأمريكي، وطلب إليه أن يتدخل مع الوزارة التي تألفت بعد الثورة لإنقاذ حياته، ولم نكن نريد حياته وإنما كنا نريد خلعه عن العرش.

 

ووقع الملك وثيقة التنازل عن العرش مرتين؛ بعد أن قرأها وقعها أول مرة ويده ترتعش فاضطر إلى توقيعها من جديد، وكان في حاله شبه هستيرية، وسمحنا له بأن يأخذ معه ما بدا له، ولم نشترط إلا أن يكون على ظهر اليخت الملكي في ميناء الإسكندرية قبل السادسة مساء، وقد أمكن للملك - ورغم خوفه - أن يجهز ٢٧٣ حقيبة وصندوقاً!

 

وأُعلن نبأ تنازله على الشعب في السادسة مساء من محطة الإذاعة؛ في نفس الوقت الذي أبحر فيه الملك على ظهر اليخت الملكي من ميناء الإسكندرية، وهو يلبس الزى الرسمي الأبيض؛ زي القائد الأعلى للبحرية، وكان اللواء محمد نجيب يودعه على ظهر اليخت، فكانت آخر كلمات الملك: "لقد كنت أستعد لأفعل بكم ما فعلتم بي".

 

لقد نجحت العملية الأولى للثورة؛ وبقي علينا أن نجعل المستقبل يستحق كل هذا العناء.

 

- "مورجان": لقد تابعت الحوادث حتى قامت الثورة ونجحت، ماذا حدث بعد ذلك وعندما بدأتم ممارسة الحكم؟

 

• الرئيس: نجحت الثورة ولكننا لم نكن راغبين في الحكم مطلقاً، لا أنا ولا زملائي من الضباط الأحرار. كنا مصممين على محو كل أثر للسيطرة الأجنبية وعلى إجراء إصلاح زراعي حاسم لإنهاء النظام الإقطاعي الذي اختفى من قبل في أوروبا منذ ثلاثمائة عام، وكنت أريد أن يضطلع بالمسؤولية حزب يمكن أن يؤتمن زعماؤه على العمل في الحدود التي تلهمها روح الثورة.

 

وفي بداية الأمر صفقت كل الأحزاب وهللت، وتصور كل من الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيين أن الثورة لهم، فقد كانوا يحسبون أن من اليسير عليهم تشكيل جماعة من شباب الجيش المتحمسين بما يتفق مع منهجهم؛ ولكنهم عجزوا عن إدراك ما يكمن وراء الثورة من قوة في الهدف.

 

وتحدثت مع زعماء كل الأحزاب، لكنى لم أجد بينهم من كان على استعداد لتقديم صالح الشعب على صالح حزبه، بل لقد ذهبت إلى أكثر من هذا، فعرضت على حزب الوفد أن أنقل إليه السلطة بشرط أن يضمن جلاء البريطانيين عن منطقة القنال، وأن يطبق الإصلاح الزراعي الذي يحدد حيازة الملكية الزراعية بمائتي فدان للشخص الواحد؛ ولكنهم رفضوا الإصلاح الزراعي وفضلوا أن يدوروا حول الفكرة ويبعدوا عنها.

 

وهكذا حملنا المسؤولية على عاتقنا والأسف يملأ قلوبنا، ولقد كان عملي يسيطر على حياتي فقلما وجدت الوقت لشيء آخر غير العمل.

 

- "مورجان": لابد أن تجربة مسؤولية الحكم كانت أمراً جديداً بالنسبة لعملكم السابق؟

 

• الرئيس: صحيح.. وسرعان ما اكتشفت أن حكم بلد من البلاد يختلف اختلافاً عظيماً عن قيادة كتيبة من الجنود، ومع ذلك فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما؛ فقد عرفت في مرحلة باكرة جداً ضرورة التخطيط، فالإصلاحات التي أردنا إدخالها كان لابد من تنفيذها على أساس الخطة الطويلة الأجل، ولقد شغل التخطيط بالى في هذه المرحلة، ورحت أتحدث عنه إلى كل من تتيح لي الظروف فرصة أن التقى به، وتكون لديهم فكرة عنه أو تجربة.

 

وإني لأذكر أن موضوع التخطيط كان أول حديث طويل بين "البانديت نهرو" وبيني. وأثناء زيارة من زياراته للقاهرة، ركبنا يختاً في النيل وأخذنا نتناقش لمدة خمس ساعات حول تجاربه الخاصة بالتخطيط في الهند.

 

ولم أكن أستطيع أن أعتبر نفسي خبيراً، كما أنه لم يكن تحت تصرفنا إلا عدد محدود من الخبراء، ولاسيما في المجال الاقتصادي، وهو مجال ذو أهمية حيوية. فالخبراء رغم كل شيء قد يكونون في بعض الأحيان عبئاً أكثر منهم عاملاً مساعداً، فلقد يكونون متحجرين فيما ألفوه من أساليب؛ ولهذا فإني أفضل المفكرين على الخبراء. إن التفكير يجب أن يرسم الإطار العام للحركة أولاً ثم يجيء دور الخبرة في خدمة الإطار العام.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز