عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
السودان .. النور والبهجة

الغربة الثانية 38

السودان .. النور والبهجة

هَبطتُ مطار الخرطوم بعد رحلة على الخطوط الجوية السودانية، لم تكن مريحة رغم قصرها. استقبلني بالمطار أحد المستشارين من مكتب النائب العام حسن الترابي، ومعه الصديق والزميل الصحفي صلاح عبد اللطيف، مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط في السودان. وقد تعارفنا أيام كان مراسلًا صحفيا للوكالة في المملكة الأردنية وأنا في زيارة صحفية للأردن بدعوة من منظمة فلسطين العربية، وتصادقنا. 



 

انطلقت السيارة بنا من المطار متجهة لفندق هيلتون للإقامة، وهو واحد من الفنادق الثلاثة الرئيسية في الخرطوم، مع الجراند هوتيل والإكسلسيور. مرّت بنا السيارة على ضفاف النيل الأزرق المنساب في مشيته كأنه صفحة مرآة مَجْلُوَّة، ذلك النهر الذي جعله الله هاديًا ومرشدًا لوحدة وإخاء شعوب شقيقة ارتوت من ماء الحياة، فشربت من مائه صفوًا وأكلوا من حصيده طيبًا، ولكن دنست مياهه الأطماع والمؤامرات. قضيت أمسية ليلتي الأولى مع الصديق صلاح عبد اللطيف، بعد أن انضم لنا العديد من الإخوة السودانيين من أصدقائه، في أحاديث غمرتها البهجة وشلالات من الحب لذكريات من نور لزيارتهم لمصر وعشقهم للبلد الشقيق. 

 

 

ليلتها تعلمت أن السوداني إنسان أصيل، بسيط بطبعه، له شخصيته التي تميزه عن باقي الشعوب في العالم فهو مزيج من حضارة ضاربة بعمق في جذور التاريخ مع تنوع إثني، عرقي، ثقافي واجتماعي. إرث قلّ أن يوجد مثيله في العالم، حيث تمازجت كل تلك المكونات لتشكل لوحة إبداعية فريدة من نوعها وتخرج شخصية مميزة بكل المقاييس، قادرة على التأقلم مع كل الظروف البيئية، قادرة على الابتكار والتفرد، وتتميز بالرجولة والكرم، المروءة والأمانة، الصدق وإغاثة الملهوف، وكلها صفات إنسانية جميلة. 

 

 

كانت السودان تغمرها شلالات النور والبهجة، والسوداني ثمرة تلك الصفات الإنسانية التي كان يتصف بها قبل السنين العجاف التي طحنته بعد (طغي) السياسة واحتكار السلطة وتوجيه المجتمع، رغم أنه مرّ بثلاث مراحل من الديمقراطية الحقة... مراحل ستظل عالقة بأذهاننا وخالدة ما خلدت الدنيا. 

 

كان إنسان السودان في تلك العهود الديمقراطية إنسان فرِح وسعيد، كان يسير على الدرب السوي ولا أحزان تعتريه، فهو يعرف أن له حقوقًا وعليه واجبات، ففي بلده كل جوانب الحياة مكتملة، فالتعليم كان مؤسسيًا حتى صارت جامعة الخرطوم واحدة من ثلاث جامعات أوائل في إفريقيا. وعُرِف أن المرأة السودانية رائدة في العلوم والسياسة والنشاط، حيث يفخر السودان بأول برلمانية في إفريقيا والشرق الأوسط وهي فاطمة أحمد إبراهيم في عام 1969، وبأول امرأة تعين وزيرة للصحة في عام 1974. كما قدّم السودان للشرق الأوسط أول قاضية، ومصورة سينمائية، وحَكَم كرة القدم، وضباط الجيش والشرطة.

 

 

كان السودان نموذجًا للمدينة الفاضلة لدرجة أن حاكم الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حين طاف على المدن العربية في زمانه عندما كان ينوي تأسيس بلاده، قال: أبغي مدن بلدي مثل الخرطوم. 

 

 

تأكد لي في صباح يومي الثاني في الخرطوم الصفات الحميدة للإنسان السوداني الفرح البسيط المحب العاشق، وأنا استقل سيارة التاكسي لمقر وزارة العدل. وقد تعودت دائمًا عندما أستقل سيارة أجرة الجلوس في المقعد الأمامي المجاور للسائق، لكنه هذه المرة رفض وطلب مني الجلوس في المقعد الخلفي، لأنه يتبارك ويتفاءل بصحن طعام من الألومنيوم مطلي بالمينا البيضاء يعتز به، يحمل ذكرياته عن مصر، اشتراه من أسواق القاهرة، يضعه دائمًا على المقعد المجاور، ويستخدمه في إفطاره وغدائه. 

 

 

تفاءل بيومه فالراكب من مصر. أدار الراديو ليأتي صوت المطرب السوداني سيد خليفة فتمايل وكاد أن يترك مقود السيارة ليرقص على أنغام المامبو السوداني، وهو اسم آلة موسيقية ولون موسيقي. ضحك وقهقه للصوت الجميل وهو يخاطب أحبابه بلهجته الطريفة قائلًا: “ازيكم.. كيف حالكم.. أنا لي زمان ما شفتكم”.

 

 

مررنا بالسيارة على جامعة الخرطوم عبق المكان وعراقة الإرث، وريادة الاسم وعلو القامة والهامة. كانت منتهى حلم الجميع من أبناء السودان وغير السودان، فالكل يُمَني نفسه بأن يكون أحد روادها. 

 

 

شارع (المين) الميدان الشرقي.. الميدان الغربي.. قاعة البروفيسور عبد الله الطيب.. مسجد الجامعة.. داخلية البركس.. عوالم ومشاهد ربما يومًا ما تكون ضمن قائمة التراث العالمي. وصلت لمقصدي وشكرت الزول (السائق)، وكانت أول مرة قلت فيها لفظ “زول” ولم أكن أعلم بعد أنها تعني “الرجل” بلهجة أهل السودان.

 

 

استقبلني النائب العام د. حسن الترابي، بقامته الرشيقة وابتسامته الساحرة، ارتحت إليه وارتاح لي، لم أكن أعرف الكثير عنه أو عن اتجاهاته السياسية أو الدينية، غير أنه سليل أسرة دينية توارثت العلوم الدينية على امتداد ما لا يقل عن 400 عام، وأنه ابن عبد الله الترابي، القاضي الشرعي، وأنه نال الماجستير من جامعة لندن والدكتوراه من جامعة السوربون، كما حكي لي مقدِمًا نفسه، وتقربًا منى بحكم أني قادم من بلاد الإنجليز. 

 

 

تحادثنا وعبّر عن اهتمامه بإصدار قوانين السودان الجديدة، وامتنانه باهتمامي وحرص شركتي أن تخرج المطبوعات على أفضل صورة.. أَخْرَج من درج مكتبه ملفًا يحتوي عقد اتفاق بين الحكومة السودانية وشركتي ممثلة في شخصي، وقّعه بصفته النائب العام للبلاد. ووقعته أنا بدوري مع تعهد مني بالسرية التامة حتى يخرج العمل للنور. 

 

 

على طاولة الاجتماعات، كانت ستة صناديق تحمل قوانين السودان صدّق عليها الرئيس النميري رئيس البلاد، وأعطى الدكتور الترابي أوامره بإرسال الصناديق الستة بالحقيبة الدبلوماسية إلى السفارة السودانية في لندن، على أن أتسلمها شخصيًا بعد عودتي.

 

 

وقبل أن يستودعني أصر على أن نشرب معا شاي المغرب، وهو شاي يمزج بالحليب اشتهر به السودانيون، شكّل جزءًا من حياتهم وأصالتهم وتقاليدهم الجماعية عبر اللمّة الحلوة، فيلتقي معا جميع أفراد العائلة السودانية، فضلًا عن الجيران والأصدقاء، كمنبر للتلاقي والنقاش في شتى مناحي الحياة بما فيها السياسة، وشاي المغرب له طابع خاص نُظمت في مدحه قصائد تؤكد قدسيته وأهميته كعامل للترابط الاجتماعي. 

 

 

واليوم ومع تسارع وتيرة الحياة والظروف الاقتصادية، انتشرت ظاهرة بائعات الشاي أو ما يعرف محليًا بـ"ستات الشاي"، وهن نسوة يقمن ببيع الشاي في الطرقات والأماكن العامة في الهواء الطلق، بطريقة بدائية تختصر في عمله على "منقد" بالفحم، مهنة ابتدعتها النساء في السودان لإعالة أسرهن. 

 

 

صبّ الدكتور الترابي الشاي بنفسه، وتجاذبنا أطراف الحديث خارج دائرة العمل الرسمية، وبخجل شديد أخرج من حافظته كارت "فيزيت"، أي ما نطلق عليه Business Card يحمل اسمه ووظيفته الرسمية، واستأذن منى أن أطبع له عددًا ليستخدمه في العمل. 

 

 

وكان من الطبيعي أن أقوم بتلبية طلبه وإهدائه كمية منها كتقدير وامتنان، وتواصل وأُلفة، وأنا المتعاقد على عمل يحسدني عليه الكثيرون، لكنني فوجئت بإصراره على تسديد قيمة طباعتها. حفاظًا على هيبة المنصب.

 

 

في نهاية اللقاء استودعني وطلب مني لقاء قاضي القضاة خلف الله الرشيد للتعرف عليه، فهو الرجل الذي ساهم بجهد خارق في وضع القانون الجديد في الشؤون السيادية والسياسية والعدلية والنظامية والاقتصادية والاجتماعية والأراضي والشؤون المالية والتعليمية والمصارف والشركات والتجارة والشؤون الصحية والخدمية.. إلخ، وقام بصياغته. وخرجت من عنده مبهورًا بشخصية الرجل الذي غرق فيما بعد في مستنقع السياسة وغرق معها.. وتوجهت للقاء قاضي القضاة.

 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز