عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ضحايا الإنجلوساكسون 8 - خوسيه لوبيز بورتيللو - المكسيك

ضحايا الإنجلوساكسون 8 - خوسيه لوبيز بورتيللو - المكسيك

بقلم : طارق رضوان

لم تواجه دولة فى العالم أزمات متتالية - سياسية واقتصادية واجتماعية - كما واجهت المكسيك. الدولة التى تقع على الشريط الحدودى الجنوبى للولايات المتحدة الأمريكية. فهناك عبارة مأثورة عن الرئيس المكسيكى «فارجاس» أوائل الثلاثينيات حين سئل وبلاده غارقة فى المشاكل عن حقيقة أزمات المكسيك المتكررة والتى لا تنتهى. قال الرجل بعد لحظة تفكير ثم قال مكررا السؤال: أزمة المكسيك؟

وأجاب: أزمتها أنها قريبة جدًا بحدودها من الولايات المتحدة، بعيدة جدا بروحها عن الله، القرب الزائد بلا تبعية له ثمن، والثمن عادة حياة الشعوب.
كانت المكسيك برئاسة خوسيه لوبيز بورتيللو، قد بدأت منذ عام 1976 برنامجًا ضخمًا للتحديث والتصنيع مستخدمة مخزونها النفطى لهذا الغرض، وقد اشتمل البرنامج على بناء المرافئ والطرقات والمصانع البتروكيماوية والتجمعات الزراعية المروية الحديثة ومصانع إنتاج الطاقة النووية. فى عام 1981 بعد صدمة «بول فولكر» رئيس بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى النقدية برفع معدلات الفائدة، قررت بعض الدوائر السياسية فى واشنطن ونيويورك أن قيام مكسيك صناعية قوية أى «يابان جديدة على حدودنا الجنوبية كما كان يدعوها واحدًا من أصحاب النفوذ فى هذه الدوائر تهكمًا» لن يكون أمرًا مسموحًا به. وكما كان الحال مع إيران، لم يكن مسموحًا إذًا، بنظر بعض المصالح القوية الأنجلو - أمريكية، أن تقوم مكسيك مستقلة وعصرية. وبناء على ذلك، تقرر العمل على تخريب طموحات التصنيع المكسيكية عن طريق التشدد فى المطالبة بتسديد ديون المكسيك الخارجية الخاضعة لمعدلات فائدة شديدة الارتفاع.
لقد هُيئ تهرب من البيزتو »وحدة العملة المكسيكية» فى بداية خريف 1981. وكان قد ألمح على ذلك الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية كولبى فى مقابلة له مع صحيفة «نيويورك تايمز»، وكان- آنذاك- يعمل كمستشار للشركات متعددة الجنسيات، حول «المخاطر السياسية». قال »كولبي» فى تلك المقابلة إنه ينبه زبائنه حول التثمير فى المكسيك بأنه يتوقع تخفيضًا للبيزتو قبل الانتخابات العامة العام القادم.
وكان كولبى على صلة بمكتب استشارات دولية يدعى بروبى إنترناشيونال. وقام رئيس مكتب الاستشارات بروبى، بنجامين وينر، وهو موظف سابق فى وزارة الخارجية، بنشر سلسلة من المقالات فى صحف الولايات المتحدة فى الأسابيع الأولى من عام 1982 ذكر فيها أن رجال أعمال مطلعين من المكسيك أخذوا يبدلون عملتهم  الوطنية بالدولار ويهربون حصيلتها من المكسيك إلى ولاية تكساس أو كاليفورنيا، حيث يشترون بها عقارات قبل أن تنفجر الأوضاع فى المكسيك. ونُقلت تلك المقالات إلى الصحافة المكسيكية، مما فاقم أزمة تهريب الأموال إلى الخارج. ووجه الرئيس المكسيكى بورتيللو خطابًا إلى الشعب عبر الإذاعة فى فبراير 1982 هاجم فيه ما سماه «المصالح الأجنبية» التى تحاول بث الاضطراب فى البلاد عبر شائعات تثير الهلع وهروب الأموال إلى خارج البلاد وتفرض تخفيض قيمة البيزتو مقابل الدولار الأمريكى. وكان مكتب بوربى للاستشارات الدولية هو نفسه قبل ثلاث سنوات قد لعب دورًا مهمًا فى إثارة هروب الأموال من إيران، مما أضعف الشاه وهيأ السبيل لثورة الخمينى.
وفى 19 فبراير 1981 اضطرت الحكومة المكسيكية إلى اعتماد برنامج تقشف صارم أملاً فى وقف سيل هروب الأموال إلى الولايات المتحدة.
بعد عام فى «19» فبراير 1982 خضعت حكومة بورتيللو للضغوط وخفض »البيزتو» بنسبة 30 ٪ أملاً فى تثبيت الأوضاع ووقف تهريب الأموال إلى الخارج. وكان من نتائج ذلك أن الصناعة الوطنية التى اقترضت أموالاً بالدولار لتمويل مشاريعها فى السنوات السابقة بقيادة مجموعة «ألفا جروب مونتيري» وجدت نفسها فجأة فى حالة إفلاس. لقد كانت مداخيلها بـ «البيزتو» وخدمة ديونها بالدولار الذى ارتفع ثمنه بعد تخفيض «البيزتو». ومن أجل تثبيت عبء ديونها الخارجية فى المستوى الذى كان عليه قبل تخفيض »البيزتو» كان عليها أن تزيد سعر منتجاتها بـ»البيزتو» بنسبة 30 ٪ أو تخفيض تكاليف إنتاجها بتخفيض القوى العاملة، وأدى تخفيض «البيزتو» أيضا إلى تخفيض البرنامج الصناعى وخفض مستوى المعيشة وتضخم فى العملة المحلية، وبعد أن كانت المكسيك قبل بضعة أشهر البلد الأسرع نموًا فى العالم الثالث أصبحت تغرق فى بحر من الفوضى فى ربيع عام 1982. وصرح الموظف المختص بحالة المكسيك فى صندوق النقد الدولى بعد الإجراءات القاسية: «إن هذا كان هو الشىء الصحيح الذى ينبغى عمله».
نتيجة ذلك، وصفت المكسيك فى الإعلام العالمى كبلد «مقترض ذى مشاكل» أو «بلد بمعدل مخاطر مرتفع»، وقرر كبار بنوك الأورودولار فى لندن ونيويورك وزيورخ وفرانكفورت وكولومبو بسرعة وقف خططها لتقديم القروض للمكسيك. وأصبح هذا البلد تحت ضغط ثلاثى من خفض قيمة العملة الوطنية، وهروب الأموال إلى الخارج، وقرار كبار البنوك عدم تمديد أجل تسديد الديون القديمة، ووجدت الحكومة المكسيكية نفسها فى أغسطس  1982 فى مواجهة أزمة تسديد ديون شديدة الخطورة!
وفى «20» أغسطس  1982 دعا أكثر من مائة من كبار المصرفيين فى الولايات المتحدة إلى اجتماع مغلق فى مكاتب بنك الاتحاد الفيدرالى للاستماع إلى تقرير من وزير مالية المكسيك جيسوس سيلفا حول إمكانيات بلاده تسديد ديونها الخارجية التى كانت قد بلغت «82» مليار دولار، وخلاصة ما قاله سيلفا أن بلاده غير قادرة حتى على تسديد القسط القادم لخدمة ديونها لأن احتياطيها من النقد الأجنبى قد نفد تمامًا.
وقرر رئيس المكسيك بورتيللو فى مواجهة الفوضى الاقتصادية المتصاعدة أن يضع حدًا لتهريب الأموال التى بلغت أبعاد أزمة كبيرة، وخاطب بورتيللو الشعب فى الأول من سبتمبر 1982 معلنًا أن البنوك الخاصة فى البلاد قيد التأميم فى مقابل تعويض بما فيها البنك المركزى الذى كان خاصا آنذاك، وقال إن هذا كان واحدًا من حزمة إجراءات طوارئ لتصحيح الوضع المالى ومنع تهريب الأموال من تدمير الاقتصاد الوطنى بالكامل.
وهاجم بورتيللو فى خطابه عبر التليفزيون، الذى استغرق ثلاث ساعات، البنوك الخاصة متهمًا إياها بممارسة المضاربة وبالطفيلية، وخص بالذكر الأموال التى هربتها إلى الخارج بعد تبديلها بالدولارات لشراء عقارات فى الولايات المتحدة. كان مجموع الأموال المهربة «76» بليون دولار وهو تقريبًا المبلغ نفسه الذى اقترضته المكسيك خلال السنوات العشر الماضية بهدف تمويل التصنيع، وبعد ذلك، ألقى بورتيللو فى الأول من أكتوبر 1982 أمام الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة خطابًا ناشد فيه جميع دول العالم الثالث أن تعمل معا قدمًا لعدم «الرجوع إلى عصور الظلام»، ثم هاجم الفرض الاستبدادى للشروط الجديدة للدين من قبل »مارجريت تاتشر» و»فولكر». »إن المكسيك ودولاً كثيرة غيرها من العالم الثالث لا تستطيع أن تقوم بالتزاماتها نحو تسديد الديون فى المدة المتفق عليها تحت شروط تختلف تمامًا عن الشروط المطروحة الآن. نحن دول العالم الثالث لا نريد أن نصبح أتباعًا. نحن لا نستطيع شل اقتصاداتنا أو إغراق شعوبنا فى فقر أكثر سوادًا من أجل تسديد دين زادت فائدته ثلاثة أضعاف بدون مشاركتنا فى القرار وبشروط مفروضة علينا. إن جهودنا لننمو ونتقدم للانتصار على الجوع والمرض والجهل والتبعية لم تكن السبب فى الأزمة الدولية».
وكان لصوت شارع «وول ستريت» وأصدقاء كيسنجر فى وزارة الخارجية البريطانية وفى »مدينة لندن» تأثير كبير على الرئيس المتردد »ريجان». وكجزء من الصفقة التى عقدها قبل انتخابه من أجل الحصول على تأييد مؤسسة شارع «وول ستريت»، قبل «ريجان» أن يعين رئيس مكتب ميريل لانش فى »وول ستريت» سابقًا فى منصب وزير المالية، بالإضافة إلى عدد آخر من كبار الموظفين، فى طليعتهم أولئك الأعضاء السابقون فى «اللجنة الثلاثية الأطراف» جورج بوش كنائب للرئيس وصديقه الأقرب جيمس بيكر كرئيس لمكتب البيت الأبيض، وكان هؤلاء كلهم يقولون «إن علينا أن ننقذ بنوك نيويورك بأى ثمن».
وفى اليوم السابق لإلقاء الرئيس بورتيللو خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدم وزير الخارجية الأمريكى المعين حديثًا جورج شولتز موقف الإدارة الأمريكية. وشولتز أستاذ اقتصاد سابق فى جامعة شيكاغو وصديق لميتلون فريدمان  وواحد من الذين كانوا وراء قرار «نيكسون» المشئوم يوم «15» أغسطس 1971 بفك ارتباط الدولار بالذهب. وكشف شولتز موقف إدارة «ريجان» أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى لم يكن سوى الحل المقترح من قبل »وول ستريت».
بعد إعلان المكسيك عدم قدرتها على تسديد ديونها فى بداية أغسطس، اجتمع «فولكر» مع كبار مساعدى «ريجان» فى البيت الأبيض، وصمم معهم خطة لتخفيف الضائفة بالتدريج عن كبار بنوك نيويورك. ووصف شولتز هذه الخطة «بخطة الرئيس لتعافى الاقتصاد الأمريكى». وبدلا من التصدى لمعالجة جذور الأزمة فى الولايات المتحدة نفسها وفى دول الجنوب، اقترح تكليف صندوق النقد الدولى بضبط تسديد ديون الدول المدنية، بالإضافة إلى تحفيز المستهلك الأمريكى على الشراء، رغم أن هذا من شأنه أن يزيد من حجم صادرات العالم الثالث كجزء من عملية التعافى الاقتصادى. لقد كانت بالفعل أكثر عملية تعاف كلفة فى تاريخ العالم. وفى 30 نوفمبر من عام 1982 كان بورتيللو خارج الحكم، وعادت المكسيك لأزماتها التى لا تنتهى.



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز