عاجل
الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
سأخبر الله بكل شيء

سأخبر الله بكل شيء

بقلم : محمد عبد السلام

"سأخبر الله بكل شيء .. سأخبر الله بكل شيء".. قبل أن يُطلق الطفل السوري شهقة الموت بلحظات خرجت من فيه تلك الكلمات المؤلمة، طفل لن يذكر التاريخ أسمة، ولكنه سُيخلد عبارته تلك، طفل قتل ببراءته المقتولة إنسانيتنا المفقودة، قالها والدماء تسيل أنهاراً علي جبينه ووجنتيه، دماء من كثرتها لا يمكن أن تميز لون دمع العين القاني.



 

علي فراش الموت، وبينما كان الأطباء يسعفونه، لا يدركون من الأمر شيئاً، فاجئهم ذاك الطفل بأربعة كلمات، عاشوا طويلاً يسمعونها من أطفال عوقبوا علي فعل خاطئ، يختبئ الفتي أسفل فراشة أو خلف الكومودينو الصغير، ثم يطلق صياحه الشقي، ممزوجاً ببراءة جزلة "عليك الله لا تقترب مني.. سأخبره بكل شيء.. سأخبر الله بكل شيء"، ضحكات متقطعة جعلت الأب والأم يدركان أن صغيرهم يلهو، وما هي إلا لحظات حتي يأتي الجد حاملا معه الأمان، ليرتمي ذاك الصغير في حضن يمتلئ بكل ما يريد أنه يخبره للإله.

 

اليوم ما عاد هناك أب، ما عاد هناك أم، سبقهم الجد برصاص الغدر، لحق بهم الأبناء بسيف الفكر، وها هو الحفيد باكياً يستنجد بالرب، سيقف بين يديه، سيخبره بكل شيء، سيخبره بكل أدب، يا ألله خلقتني إنساناً، أنشأتني بريئاً، جعلتني بين إناس انتُزعت الإنسانية من قلوبهم، حرموني روحاً نفختها في جسدي، واليوم الروح عادت إليك، تشكوا ضعف قوتها، وقله حيلتها، وهوانها علي الناس، روحاً لا تعلم بأي ذنب قُتلت، لن يكن هناك ألم، لن تسيل علي وجنتيه الدماء أنهارا، لن تدمع عينه ماءا.

 

أعلي فراش الموت ألقت روح الصغير نظرة الوداع علي بقايا جسد، حلمت كثيرا آلا تتركه، تعلم إنها إلي الجنة ذاهبة، لكنها كأي روح تمنت أن لا تفارقه، ليس بتلك الصورة علي الأقل، لم تنس أن تلق نظرة علي الباكين حولها، رجال ونسوه لم يكفوا عن البكاء لحظة، لم يرتكبوا إثم ولم يقصرا في إنقاذ روحة الشاردة، وما خلف غرفة الموت، وفي طريقة للسماء صاعداً، عرج علي منزل مولدة، لم يجد حديقته التي روي شجيراتها بيده، لم يجد فراشة الذي أسفله طالما اختبأ، لكن سمع صوته يردد ضاحكاً "عليك الله يا أبي لا تقترب مني.. سأخبره بكل شيء.. سأخبر الله بكل شيء"، فتذكر أخر كلماته قبل شهقة الموت قائلاً: "أستودع بلادي في حفظ من عاش من أبناءها.. أما أنا فموعدي مع الله في السماء أخبره بكل من جني في حقها".

 

هنا القاهرة

 

(نهار خارجي – مصر المحروسة – صباح 9 إبريل 2017 )

 

استيقظت هذا اليوم مبكراً، انطلقت من قريتي المجاورة لقاهرة المعز، يلفني حشد من الصغار الفرحين، صنعوا بملابسهم كرنفالاً، زينت هاماتهم تيجان سعف النخيل، فاليوم عيدنا، مسيحيين ومسلمين، يوم أن دخل عيسي بن مريم أورشليم، راكباً حماره باستقبال أهلها كالفاتحين، رافعين بأيديهم غصون السعف الأخضر، مرددين يا رب خلص "هوشعنا" أمين.

 

في تلك اللحظة، وفي مدينة أخري، آبي الشيطان أن يفرح المؤمنين، مع الإمام عقد مجلساً، للشر ناصح أمين، وهناك اتخذ قراراً عله أن يكون من الفاتحين، لم يرض بسوار سعفهم الأخضر، فأبدله بحزام الفتح المُبين، علي باب كنيسهم وقف، لم يبال بصلاة العابدين، أطلق جحيم حقدة مدمراً، وأزاح بأشلائه حُلم البلد الأمين، لحظة عشناها عيدٌ بعد عيد، ولم نكن بعد قد نسينا يوم القديسين.

 

من قال أن الشر لم يهزم فينا الأمل، من يزعم أن دماؤنا المستباحة لم تعد تزكم الأنوف، تلك الأشلاء هناك قتلت داخلنا كل معاني الفرح، لم تعد لقلوبنا القدرة علي البكاء، لم يعد لصغارنا القدرة علي المرح، حتي نساؤنا ما عدن يشعرن بالأمان، عجز رجالهم عن درء الأذى عنهن، فتناثرت أجزائهم علي الجدران، لم يعد هناك فرق بين هنا وهناك، أصاب القاتل بفعلته هدفاً، أبدل كرنفال المُعيدين مأتماً، لا تسمع فيها تهنئة، فقط يردد بعضهم هامساً، يا رب خلص "هوشعنا" أمين.

 

تحت الأرض

 

(نهار داخلي – إحدي عربات المترو – ظهر 9 إبريل 2017 )

 

من ينظر الي وجوه الناس في شوارع المحروسة ظهر اليوم، لن يصدق أنها نفس الوشوش التي قابلتها صباح نفس اليوم، حل الحزن محل الفرح، حلت الكأبه محل التفاؤل، انطفئ نور العيون الضاحكة، اصفرت الوجوه، اختلجت النفوس، مادت الأرض بالناس، فسقط بعضهم جالساً كالموتى لا يتحركون، خنقتهم العبرات، عقدت الدهشة ألسنتهم، فسالت دموعهم غزيرة تعبر عما في نفوسهم من لوعة وحسرة.

 

أعترف أنه لم تكن لدي رغبة للحزن ذلك اليوم، صحوت مبكراً بحثاً عن حلمي، لكنني أدركت أن ما حلمت به لا يسعدني مع تلك الوجوه المكفهرة، وكأنها عدوي انتقلت إلي كياني، أصابتني غصة جف لها حلقي، رغم رفضي استخدام المترو في تنقلاتي، فدائما ما يُشعر رئتي بالاختناق، عزمت اليوم الفرار إلية، ظننت أنني سأبتعد لو لبعض حين عن تلك الوشوش الحزينة، ولكنه كعادتي ظن من النوع الأثيم.

 

يا لهول ذلك المشهد الرهيب، مشهد يفتت أشد الصخور صلابة، تنفطر لرؤيته الأكباد، تدمع من أجلة العيون، لم يكن تحت الأرض يختلف كثيرا عما شاهدته علي سطحه، داخل عربة المترو لم يكن هناك الكثير، فاليوم أحد السعف، الجميع إما في الكنائس، وإما في الحدائق والحقول القريبة، وكأن علي رؤوس من بقي منهم الطير، خيم علي العربة صمتاً مهيباً، نحتت الصدمة علي وجوههم تقاسيم الذهول من هول الفاجعة.

 

أغلق القطار أبوابة، تحرك مغادرا تلك المحطة الكئيبة، بحثت بعيني عن مكان شاغر، كان هناك الكثير، نظرة صغيرة جعلتني أدرك أن الوقوف بعيداً أهون ألف مرة من الجلوس بجوار كائن حزين، بطرف عيني لمحتها، فتاة صغيرة، تجاوزت السادسة بقليل، خمرية البشرة، خضراء العين، يزين شعر رأسها الأسود تاج المُلك الأخضر، صُنع بمهارة من سعف النخيل، كعروس صغير ترتدي فستاناً وردي قصير، وحذاء من القماش من نفس لون الفستان، بابتسامة هادئة أشارت إلي، أملة أن أجلس بجوارها.

 

أسرة مصرية بسيطة، جاءت من إحدي قري محافظة القليوبية، تمني النفس بنزهة تختم به مشقة الصوم الكبير، أب وأم وثلاثة بنات، أصغرهم تلك التي دعتني للجلوس بجوارها، لم أعلم أسمها، فرغم ملاطفتي لها لم تنبس ببنت شفه، فقط ابتسامات خاطفة، ثم يعود الشرود إلي وجهها الصغير، لقد أفسد القاتل رحلتهم، فكان القرار بالعودة إلي الديار، هكذا انتهي العيد رغم معارضة الصغار، لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت الصمت داخل العربة.

 

"لولا صوت القطار لظننت أننا انتقلنا الي العدم".. هكذا قلت لنفسي، فالجميع يخشي الحديث، الجميع لا يفعل أي شيء، فقط النظر الي الأرض، بعضهم وضع وجنتيه بين راحتيه، والبعض الأخر وضع همة في مطالعة صحيفة، تحرك القطار محطة وراء محطة، يصعد من يصعد وينزل من ينزل، في أخر المقعد انشغلت أم الفتاة بمتابعة الأخبار علي هاتفها الجوال، بين الفينة والأخرى تدعو زوجها ليري ما تشاهده، فيربت علي كتفيها مواسياً، الرب يرحمهم أجمعين، يا رب خلص "هوشعنا" أمين.

 

راح الأب يردد مواساته، يا رب خلص "هوشعنا" أمين، تاركاً زوجته ترسل الدمع في صمت على وجنتيها، تظهر خلفها نظرة حزينة منكسرة، بكت كثيرا حتي تورمت عيناها حزنا، حتى أوشكت على الهلاك لشدة ضعفها، في حين أحاط زوجها ابنتيه بذراعية، أراد أن يشعرا بالطمأنينة والأمان، حاولت أن أهون علية قائلاً، لا تحزن سيدي، الإرهاب لا دين له، القاتل لم يفرق بين مسلم ومسيحي، فاجأتني الصغيرة بصوتها الذي أسمعة للمرة الأولي، "معلش يا عمو.. محدش بيموت غيرنا".

 

هل تذكرون عبارة الطفل السوري ذي الأربعة كلمات، اليوم أضحت ثلاثة كلمات، "محدش بيموت غيرنا"، نفس البراءة، نفس التلقائية، اجتمعتا في هذين الطفلين، الفرق بينهما أكثر من ستمائة كيلو متر بقليل، ولكنهما لخصا واقعنا الأليم بعفويتهما، ألجمتني عبارة الطفلة، لم أعد قادرا علي الحديث، تسمرت في مكاني لا أقوى على الحركة، وحينما حاولت النهوض لم استطع، أصبحت ساقاي غير قادرتين على حملي، استبد بي اليأس والكآبة والحزن من جديد، عدت إلى المنزل منكسراً حزيناً، أجر خطى الخيبة، وعيون أترابي ترمقني في شفقة، وقد تملكني حزن شديد، أمست حياتي خواء لا بهجة فيها.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز