عاجل
الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
روزاليوسف وطلعت باشا حرب

روزاليوسف وطلعت باشا حرب

بقلم : رشاد كامل

لا تحتاج السيدة «روزاليوسف» أو «طلعت حرب باشا» إلى كلمات تعريف أو سطور تقديم، فقد دخل كلاهما تاريخ مصر الحديث بما أنجزه كل منهما فى ميدانه



روزاليوسف السيدة الحرة المستقلة ومجلتها العريقة وطلعت حرب «زعيم ثورة سنة 1919 الاقتصادى»!

لكن يبقى الدور المهم والخطير الذى لعبه طلعت حرب وبنك مصر فى مشوار «روزاليوسف السيدة والمجلة» فى كل أزمة مالية خانقة تعرضت لها منذ أصبحت مجلة سياسية.

طلعت حرب فى نظر السيدة روزاليوسف هو أعظم رجل فى مصر.

«الرجل الذى أنقذنى» هكذا يصف الأستاذ الكبير «إحسان عبدالقدوس» دور طلعت حرب فى حياة مجلة روزاليوسف ويقول متسائلا: ماذا كان يمكن أن يحدث لروزاليوسف لولا «طلعت حرب»؟!

ومن الغريب أن العلاقة بين طلعت حرب والسيدة «روزاليوسف» بدأت عنيفة وتصادمية إلى أبعد حد، كان ذلك عندما كانت السيدة روزاليوسف النجمة المسرحية الناشئة قد تركت فرقة «عزيز عيد» المسرحية والتحقت بفرقة «عبدالله عكاشة» التى كان يمولها ويشرف عليها طلعت حرب من الألف إلى الياء وهو الذى أنشأ شركة مصر لترقية التمثيل العربى ويشيد مسرح الأزبكية وأنفق عليه من جيبه الخاص حوالى ثلاثين ألف جنيه!!

فوجئت روزاليوسف فى الفرقة التى انضمت لها بـ «جو من الفوضى والارتجال لم تألفه أثناء وجودها مع أستاذها «عزيز عيد»، لم يكن هناك إخراج دقيق وبروفات مضنية ولا أى شىء من هذا القبيل، كان كل ممثل يحفظ دوره فى بيته ثم يصعد ليلة التمثيل على خشبة المسرح ليمثل كما يشاء!!

فى هذا الجو الغريب عاشت الفنانة الناشئة - هكذا تصف روزاليوسف نفسها - تائهة ولم تستطع أن تنسجم أبدا مع أدائهم الفنى العتيق ولم تجد لها بين ممثلات الفرقة العجائز المحتشمات بسبب الكهولة والبدانة لا بسبب الحشمة!!

••

ووقع الصدام بين الفنانة الناشئة روزاليوسف وطلعت حرب لسبب لم يخطر على بالها إطلاقا حيث تقول: «كان الصيف قد أقبل وسافرت فرقة عكاشة كعادتها إلى «رأس البر» لإحياء موسم الصيف هناك، وكان يوم راحة ورأت الفنانة الناشئة صباح رأس البر الجميل، الرمال ومياه البحر التى تلتقى بمياه النيل والناس على الشاطئ يمرحون، ونزلت الفنانة إلى الشاطئ تلبس «بيجاما طويلة» ولم تكن تدرى أن هذا التصرف سيثير فى وجهها البراكين وسيؤدى إلى فصلها من الشركة!

ثأر «طلعت حرب» على هذا التصرف الذى رآه خروجا على التقاليد من إحدى ممثلات الفرقة التى يشرف عليها، وصمم على ضرورة فصلها وإعادتها إلى القاهرة فى نفس اليوم، وأسرع الأصدقاء يتوسطون لديه أن يقبل اعتذارها وتبقى!

ولكن الفنانة الناشئة التى تعلمت العناد والاستقلال بالرأى رفضت أن تعتذر وتقبلت الفصل، وعمدت إلى البقاء فى رأس البر بعد فصلها أياما، لتنزل إلى الشاطئ بالبيجاما إغاظة لطلعت حرب!!

وانقضت هذه الأيام وطلعت حرب يتهكم عليها، وهى تتهكم عليه ونزلاء المصيف يتسلون بالمعركة الطريفة ولم تتحسن العلاقات بين الزعيم الاقتصادى الكبير والفنانة الناشئة إلا بعد سنوات وأصبح طلعت حرب يكن لها تقديرا كبيرا».

وتشهد صفحات «روزاليوسف» فى بداية صدورها فى أكتوبر سنة 1925 هجوما ضاريا على فرقة عكاشة وطلعت حرب الذى يتبناها وحرصت على مخاطبته فى مقال لها عنوانه «خطاب مفتوح إلى حضرة صاحب العزة.. «طلعت بك حرب» ورغم هجوم المقال إلا أنه بدأته قائلة:

«سيدى، يسرنى قبل كل شىء أن أؤكد لكم عظيم إعجابى بكم وبالخدمات التى قدمتموها لمصر وأن أقول أن لكم فى قلوب الناس منزلة سامية واحتراما لا تكنه الصدور إلا لأمثالكم من كبار الزعماء، هذه المنزلة وهذا الاحترام العميق الذى نشعر به نحوكم محال أن تنال منه دعابة كاتب أو سخرية ناقد.

مقدمة يقضى بها الواجب والحق، أتخلص منها لأعتذر إليكم عن جسارتى فى توجيه خطابى هذا إليكم لا لأتحدث فيه عن القطن أو السندات والأوراق المالية وغيرها مما يشغل وقتكم الثمين، وإنما لكى أتحدث عن أمر تافه أو هو كذلك فى نظر سواد الأمة وأعنى التمثيل».

ويمضى مقال «روزاليوسف» بعد ذلك منتقدة بقسوة شركة ترقية التمثيل العربى!!

وفى نفس الوقت تشهد صفحات روزاليوسف الإشادة والتقدير والإعجاب بما يقوم به طلعت حرب من مشاريع اقتصادية بالعشرات وتصفه قائلة: «ابن بار مصرى وطنى عامل شجاع فيقوم بالمشروع تلو المشروع وتكلل أعماله بالنجاح».

وفى إحدى المرات تنشر روزاليوسف مقطوعة زجلية بعنوان «تحية المصرى أفندى لطلعت حرب» جاء فيها:

فى روحى حبك وملو القلب إجلالك

ياللى غمرت الوطن من سحر أعمالك

فى كل حتة آلاقى الدنيا داعيالك

أعمالك أنت فقط «معرض» لآمالى

واشحال بأه لما أشوف بالعين أمالك

رفعت قدر البلد الله يزيد قدرك

وكل مجد جديد باين عليه سرك

من يوم ما شاف الوطن يا ابن الوطن سحرك

ونجمه ساطع ورأسه فى السما عالية

يا فرح العمر ربى يطيلى فى عمرك.

••

وفى شتاء عام 1935 تقرر السيدة روزاليوسف إصدار الجريدة اليومية بجوار شقيقتها «روزاليوسف» الأسبوعية ويحدث الصدام بينها وبين حزب الوفد الذى كانت تناصر مبادئه وتتعرض لأخطر أزمة مالية كادت أن تعصف بها تماما. ولم تجد من تلجأ إليه إلا «طلعت حرب»!

ويكشف الدكتور «إبراهيم عبده» مؤرخ الصحافة فى كتابه المهم «روزاليوسف» سيرة وصحيفة» عن خطاب أرسلته روزاليوسف لطلعت حرب بعد أن عجزت عن تسديد الأقساط لبنك مصر قالت فيه:

هذا خطاب خاص أحب أن أبدأه بأسمى عبارات الامتنان وعرفان الجميل نحو الرجل العظيم الذى مدّ يده الحنون استند عليها، يوم تخلى عنى كل إنسان فى محنتى التى نزلت بى، لأنى جهرت بعقيدتى ولأنى جعلت من صحيفتى ميدانا لأصحاب الأقلام الحرة، وعندما تسلحت بروح الله، قبيض الله سبحانه رجل مصر العظيم لعونى، فلبى حاجتى وعلمنى أن رحمة الله قريبة من قلب كل مخلوق».

أما بعد فإنى أحب أن يأتكد صاحب السعادة من أن الثقة التى وضعها فى سيدة حملت على كتفيها الضعيفتين عبئا ينوء به عشرون رجلا.. هذه الثقة أثمن عندى من كل شىء، إنى لأضحى آخر أنفاسى لكيلا تشعروا سعادتكم يوما إنكم وضعتموها فى غير أهلها، ولشد ما أتألم إذا أفكر أحيانا فى أنى قد لا أستطيع الوفاء بالأقساط فى مواعيدها بسبب ما تعرفونه من الركود الحالى، ولكنى أجاهد قدر ما فى طاقة البشر لكى أبقى صحيفتى قائمتين وهما الضمان الذى استندتم عليه لاستيفاء بعض فضلكم».

وفى نفس الخطاب تكشف السيدة روزاليوسف عن سر خطير وهو نيتها للعمل فى فيلم سينمائى لشركة مصر للتمثيل والسينما إحدى شركات طلعت حرب فتقول:

غير أننى والأمر كما قدمت، حرصت على أن أقدم لكم ضمانا أقوى أفاجئكم به بتسديد باقى الدين دفعة واحدة، فتقدمت بنفسى أطلب أن أتفق مع شركة مصر للتمثيل والسينما على إخراج شريط سينمائى أمثل فيه، مع شدة مشاغلى ومتاعبى! وكلى ثقة من نجاح هذا العمل الكبير، أعتقد أننى أضع تحت يد البنك جميع ما له فى زمتى ليستوفيه دفعة واحدة إذا شاء!

وعندما تحدث إلىّ حضرة الأستاذ «أحمد سالم» مدير الشركة فى شروط الاتفاق طلبت إليه أن يبلغ سعادتكم أن الشروط التى يضعها «طلعت حرب باشا» أو يوافق عليها هى نفسها الشروط التى أرضخ لها بلا نظر ولا استعادة ولا قراءة!

وليس يعنى هذا بحال من الأحوال أننى أتوقف عن سداد الأقساط حتى يتم ذلك، بل إننى لأبذل المستحيل لاستمرار الوفاء، وشد ما ألقاه من التعب إذ أحاول ذلك. ولا أفعل هذا كله لكيلا أضيع عبثا ثقة وضعها فيّ أعظم رجل فى مصر».

ووقف طلعت حرب بجوار روزاليوسف فى أزمتها الطاحنة ونجت المجلة والجريدة من التوقف والموت المبكر!!

••

فى تلك الفترة العصيبة كان يتردد على مقر «روزاليوسف» الطالب قاسم أمين «حفيد» قاسم أمين صاحب كتاب «تحرير المرأة» وكان يذهب مع صديقه الطالب بكلية الهندسة «جلال الدين الحمامصى» الذى كان يكتب بالمجلة.

وبتشجيع من الأستاذ «توفيق صليب» سكرتير التحرير بدأ «قاسم أمين» ينشر بعض الأخبار التى حصل عليها، وعرفت السيدة روزاليوسف بالأمر وكانت تبدى إعجابها بهذه الأخبار، وذات مرة سألته عن اسمه فلما قال لها: اسمى قاسم أمين..أخبرته أنها مدينة لوالده بموقف عظيم عندما حكم لها بتعويض قدره مائتى جنيه بسبب مصادرة روزاليوسف فى عهد حكومة «محمد محمود باشا سنة 1928».

وباقى تفاصيل الحكاية رواها قاسم أمين الحفيد فى حوار مهم ونادر للأستاذ الصحفى اللامع «د.سعيد اللاوندى» فى مجلة نصف الدنيا حيث قال فى الحوار:

كنت فى مكتب صديقى توفيق صليب عندما دعتنى روزاليوسف أن اصطحبها لزيارة طلعت حرب فى مكتبه ببنك مصر، وكانت قد سألتنى: هل تعرفه

فقلت: لا! فقالت: إذن هى فرصة لكى تتعرف به!

وهناك فى مكتب رجل الاقتصاد المصرى عرفت أن «طلعت حرب» قد فتح للست روزا اعتمادا على البنك بمبلغ عشرة آلاف جنيه لكى تنفق منه على الجريدة اليومية وكانت الست «روزا» قد تصرفت بالفعل فى أربعة آلاف منها!

وبعد أن توالت خسائر الجريدة وتركها رئيس التحرير «محمود عزمى» الذى كانت تربطنى به صلة طيبة، قررت الست «روزا» إغلاق الجريدة وما زيارته لطلعت حرب إلا لكى تبحث معه عن طريق تسديد ديونها!

فقال لها الرجل: لا تقلقى يا ست روزا، فأنا لن أطالبك بالمبلغ إلا بعد أن تزول الشدة وتقفى من جديد على قدميك!

فضحكت الست روزا وقالت له: شكرا يا باشا، لكننى مصرة على تسديد هذا الدين؟!

فقال: وكيف يتسنى لك ذلك وأنت فى هذه الظروف الصعبة؟

فقالت: من دقنه وافتله يا باشا!!

فقال مستفسرا: يعنى إيه الكلام ده؟!

فقالت: يعنى سوف نواظب على نشر إعلانات بنك مصر فى المجلة على أن يخصم ذلك من أصل الدين!!

فوافق طلعت حرب على ذلك.

••

ولم يتوقف إعجاب وتقدير واحترام السيدة روزاليوسف بطلعت حرب حتى بعد رحيله فى 21 أغسطس سنة 1941 وظلت تتذكر فى كل وقت وعندما كتبت ذكرياتها بعد ذلك صيف عام 1953 اختصته بكلمات ومشاعر المحبة والعرفان بالجميلة ومواقفه تجاهها، فتكتب قائلة:

اقرأوا قصة جهاد «طلعت حرب».. ابحثوا كيف صنع لكى يجد فى مصر - ومنذ ربع قرن - رؤوس الأموال الكافية لكى ينشئ عشرات الشركات من مال مصرى حر، وبأيد مصرية صميمة! ولو ظهر فى مصر خمسة فقط مثل طلعت حرب لاستقلت مصر اقتصاديا من زمن بعيد، ولأرى هذا الاستقلال الاقتصادى حتما إلى الاستقلال السياسى الذى ما زلنا نكافح من أجله!

وأنى لأتلفت اليوم فى ميادين القاهرة باحثة عن تمثال لطلعت حرب فلا أجد وانصت إلى الأصوات التى ترتفع بتخليد ذكرى هذا وتمجيد ذاك فلا أسمع صوتا يذكر «طلعت حرب» ولا أجد إلا تماثيل غريبة للاظوغلى وسليمان الفرنساوى ومن إليهم! ولا أدرى ما الذى يمنعنا من رفع واحد من هذه التماثيل ليقف بدلها طلعت حرب؟ هذا الإنسان البسيط، الكبير القلب الذكى الفؤاد لا يجد التكريم الكافى لذكراه من مواطنيه وتلاميذه ومن الذين ورثوا مجده وتربعوا على عروش المال من بعده.

والناس ينظرون اليوم إلى بنك مصر وشركاته المنتشرة فى كل مكان كما ينظرون إلى شىء عادى آخر، ولكن الذين عاصروا الرجل وهو يشيد هذا البناء الضخم يعرفون أنه كان معجزة حقيقية.

كان ميدان المال والصناعة قاصرا على الأجانب محرما على المصريين وكانت العقيدة السائدة أن المصريين قوم لا يصلحون إلا لفلاحة الأرض، وكانت الدول الأجنبية التى يهمها أن تبقى مستأثرة بالسوق الاقتصادية فى مصر تؤكد هذا الوهم الكبير، وكانت إنجلترا تعرقل كل مشروع مصرى بشتى الوسائل ليبقى استثمار الخيرات المصرية قاصرا على رؤوس الأموال الأجنبية!

وفى وجه هذه السدود الهائلة تقدم «طلعت حرب» تقدم فرد لا جماعة معه ولا حزب ولا أصدقاء وأعلن عن مشروعه لإنشاء بنك مصر تكون أمواله كلها مصرية، وموظفوه جميعا مصريين، وأخذ يطوف المدن والأقاليم ليقنع المصريون بمساعدته فى هذا السبيل.

ومازالت أذكر أنه ذهب مرة إلى أحد أغنياء المنيا وأنفق ساعتين كاملتين يشرح له وظيفة البنك وأغراضه وأرباح المساهمين فيه، وفى نهاية الجلسة قال له الثرى الكبير: يا ابنى الله يحنن عليك.. أنا لا أفهم فى هذه الأشياء ولكن خذ عشرين جنيها تساعدك! ولم يغضب طلعت حرب ولم يفقد أعصابه بل أخذ العشرين جنيها وأرسل بها أسهما إلى الثرى الكبير! ومن يدرى لعل هذا الثرى الكبير قد فهم الآن - سنة 1953 - معنى البنوك وأصبح من كبار المساهمين!

وشن عليه الجميع حربا شعواء، الأجانب يحاربونه ليهدموه، والملك «فؤاد» يحاربه لأنه ليس من رجاله، الأحزاب تحاربه، الإنجليز لا يطيقونه، الصحف المرتزقة تهاجمه لكى يدفع لها مصاريف سرية من أموال البنك وكان يدفع مصاريف سرية فعلا ولكن من جيبه الخاص فهو لا يستطيع أن يترك الصحف تمضى فى شن الحملات عليه ولا يستطيع أن يدفع لها من أموال المساهمين!

وكانت الفكرة السائدة أيضا أن الشبان المصريين لا يصحلون إلا للوظائف الحكومية دون الأعمال الحرة، ولكن طلعت حرب أصر على ألا يستخدم فى بنك مصر وشركاته إلا المصريون، وكان الزائر للبنك فى أى ساعة من النهار يرى «طلعت حرب» يطوف بالمكاتب والفروع ليعرف مقدرة كل موظف ومجهوده وكانت عينه تلقط الشاب الكفء فيدفعه إلى الأمام ويعهد إليه بالمسئوليات، والجيل الحاضر الذى يسيطر على اقتصاديات مصر معظم أفراده من صنع يدى طلعت حرب!

وشجاعة «طلعت حرب» فى اقتحام الميادين يفتقدها خلفاؤه اليوم»!

••

روزاليوسف وطلعت حرب صفحة مهمة فى تاريخ مصر، ولا يمكن كتابة هذا التاريخ بغيرها، فقد ساهم فى بناء «أمة» هو بالمال ومشاريعه وهى بالكلمة الحرة عبر كل مطبوعاتها.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز