عاجل
الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
عرض توت عنخ آمون التفاعلي.. قراءة ثقافية

عرض توت عنخ آمون التفاعلي.. قراءة ثقافية

ظللت متردداً لفترة قصيرة هل أكتب نقداً عن عرض توت عنخ آمون التفاعلي الذي يقدمه المتحف المصري الكبير؟



ومن أي زاوية نقدية يمكن تناول هذا العرض؟ حقيقة الأمر بدا سؤالي الذي دفعني للتأجيل هو محل تأملي. وتأتي الإجابة في كوني أبحث عن مقترب نقدي مناسب لتناول هذا العرض. العرض معاصر جداً وهو إنتاج إبداعي فني يأتي في سياق الفنون الأدائية المعاصرة، في أسلوب فني مركب ما بعد حداثي.

ولعل المنهج الإنثروبولوجي وهو أحد أهم المناهج النقدية المعاصرة، هو المقترب المناسب لفهم هذا العرض توت عنخ آمون.

والمنهج الإنثروبولوجي لا يعني في مقتربه النقدي المعاصر بالبحث في الحضارة الأولى والإنسان البدائي كما هو معروف عنه للوهلة الأولى، بل هو منهج في استخدامه النقدي المعاصر يبحث في تفاعل الثقافات المتعددة.

وحتى لا يحدث أي نوع من الالتباس أود أن أحدد دائرة المصطلح "النقد الإنثروبولوجي" كمصطلح نقدي معاصر، ذلك أنه ينتمي إلى دائرة معرفية هي دائرة الإنثروبولوجيا الثقافية “Cultural Anthropology”  ولمصطلح "الإنثروبولوجيا الثقافية" معنيان: معنى واسع وآخر محدود، فهي بالمعنى الواسع تتضمن علم آثار ما قبل التاريخ، وعلم اللغة الإنثروبولوجي، بالإضافة إلى الدراسة المقارنة للثقافات والمجتمعات الإنسانية فقط. أما استخدام الإنثروبولوجي كنقد ثقافي تطبيقاً على الفنون، فقد أصبح فعلاً ثقافياً نقدياً في إطار التطور المطرد لمفاهيم الدراسات الثقافية والنقد الثقافي.

وقد أصبح نقداً معاصراً، بدأ من عالم المسرح ليمتد إلى الفنون الأخرى وعلى رأسها مجموعة فنون الأداء الجديدة المعاصرة، والتي تمزج في داخلها العديد من الفنون التعبيرية إذ تنهار الحدود التقليدية بين تلك الفنون التعبيرية المستقرة.

وهكذا يمكن أن نفهم ذلك النقد الإنثروبولوجي المعاصر كنقد مناسب للغاية لحالة التفاعلات الثقافية العولمية والتي تقوم على مجموعة من العلامات الفنية الثقافية الرقمية والتقنية والإعلامية والفكرية، بما يتماشى مع فكرة التأسيس المعرفي للعلاقة بين الخصوصية ذات الطابع العالمي والعالمية ذات الطابع الخاص.

وهو ما ينطبق بجلاء على عرض توت عنخ آمون التفاعلي المعروض الآن في المتحف المصري الكبير. والعرض إنتاج شركة مصرية وهى شركة "ليجاسي" المسؤولة عن إدارة المتحف، والتابعة لمجموعة حسن علام. وقد ذهبت الشركة المصرية في اتجاه التعاقد مع شركة إسبانية مختصة هي شركة الفنون الرقمية الإسبانية.  فتم إنتاج هذا العرض وإنجازه ليعرض في المتحف المصري الكبير، بعدد من اللغات الحية، وبالتأكيد توجد نسخة عرض باللغة العربية الفصحى. ويمزج العرض التفاعلي بين مواد عدة، تاريخية وأسطورية ومن خلال شخصية توت عنخ آمون الذي حكم طفلاً ثم رحل يافعاً شاباً بشكل سريع (1334 ق.م : 1325 ق.م) وهو ابن الملك الشهير إخناتون، وهو أحد ملوك الأسرة المصرية الثامنة عشر في تاريخ مصر القديم، وكان فرعون مصر من 1334 ق.م إلى 1325 ق.م. يخبرنا العرض بتاريخه ثم يأتي إلى عالم مصر القديمة مستعرضاً خلق الحياة وأسطورة الماء الأزلي ثم يعرض مفاهيماً حضارية عن العدالة المصرية ورمزها الشهير ماعت، ويعرض تفاصيل المقبرة الشهيرة الرائعة لتوت عنخ آمون، ويدمج ذلك كله بعدد من المشاهد التسجيلية السينمائية التاريخية، والتي تعود إلى فبراير 1922، عندما كان العالم الآثاري البريطاني هوارد كارتر يقوم بحفريات في وادي الملوك، وهو الوادي الواقع على الضفة الغربية لنهر النيل، بالقرب من طيبة القديمة "الأقصر حالياً"، وعند النفق المؤدي إلى قبر الملك رمسيس الرابع هناك، عثر كارتر كما هو واضح في الصور التسجيلية السينمائية على كنز توت عنخ أمون الذهبي.

والذي يستعرضه العرض التفاعلي المعاصر، بما فيه جدران المقبرة الجميلة ورسومها، كما يجعل العرض التفاعلي من تمثال توت عنخ آمون الذهبي الملون النصفي الشهير أيقونة تتكرر خلال العرض، وهو اختيار إبداعي يستخدم التكرار من فرط قدرة التمثال الذهبي على التأثير الجمالي مفرط الإنسانية والإبداع وقدرته على أن يمتد كل تلك القرون التاريخية، ليصبح جميلاً بمعناه الثقافي التاريخي وبكونه معاصراً في فن النحت، مزدانا بكل تلك البهجة والحضور عبر تلك الألوان الرائعة، والتي تترك أثراً جمالياً لا ينسي.

هذا وكم يبدأ العرض التفاعلي بطريقة حية تناسب فنون الشرق التمثيلية عندما يجسد الملك اليافع متحركاً قادماً من العمق إلى الجمهور، مستخدماً تقنية الخطاب المباشر للجمهور إذ يقول: "أنا الملك توت عنخ آمون"، لتبدأ كل تلك الصور التفاعلية المدهشة في العرض، وهو عرض يحرص في العديد من مشاهده أن يعرض للحياة اليومية في مصر القديمة من جمال النيل وبهجة القمح وحركة صناع الحياة في مصر التي تصحو مع الشمس المشرقة وتنام توحد الله وتحلم بالخلود في الحياة الأخرى.

كما يحتفل العرض بصور العجلة الحربية المصرية الشهيرة، بعد أن أدخل على الخيل الذي يحركها براءة خاصة جداً، تحمل لمحة معاصرة.

تتبادل الصور المبهجة في العرض مجموعة من الفواصل تحمل عنصري الأصالة والحداثة معاً، إذ يتم استخدام القمح الذهبي المصري لينسدل ليغمر المشهد الذي ينتهى ليبدأ المشهد الجديد، ويتم استخدامه كفاصل درامي بديلاً عن لحظات الإظلام التقليدية. 

أما الفاصل الثاني المتكرر فهو مجموعة من الكرات الملونة الشهيرة، التي نعرفها من عالم الألعاب الإلكترونية.

يحدث ذلك بينما نشهد خاتم الملك والقلائد والتاج ومخزونات الغلال والنيل والنخيل والماشية والزرع الأخضر والعربات التي تجرها الخيول والجعارين والأوعية وأدوات الزينة والحلي.

يدرك العرض التفاعلي جيداً أن الاحتفاء بتوت عنخ آمون ليس لكونه ملكاً بارزاً في مصر القديمة، ولكن لكون سره وكنزه هو الذي شاء القدر أن يختفي ليظهر لنا مكتملاً كاملاً في النصف الأول من القرن العشرين دليلاً على عظمة مصر القديمة وثرائها الإبداعي والعقائدي والإنساني.

ولذلك فقد حرص رغم كونه سردية درامية تدور حول الملك توت عنخ أمون على الإشارة العميقة لجوهر الحضارة المصرية القديمة، ولذلك فهى سردية إبداعية أدائية حرصت على النجوم والفلك والأهرام والدين والحياة اليومية في أول حضارة عرفتها البشرية.

وقد جاء العرض التفاعلي في قاعة حضارية مستطيلة تتيح المشاهدة على مساحات أربع، كما أن المسقط الأفقي يستكمل أرضية الفضاء التفاعلي المستطيل الذي يحتوي الجمهور الذي يجلس على مقاعد صغيرة تتيح للمتفرج حرية الحركة للمشاهدة من جميع مستويات المشاركة. 

بل بعض من الصور تجدها على يديك وعلى ملابس الجمهور المشارك في هذا الفعل الفني التفاعلي، الذي يحاول في بعض اللحظات الاقتراب من الواقعية السحرية عندما تجد بعض من الزواحف المصرية تسير أسفل قدميك، وعلى أرضية القاعة، لتصنع بعضاً من خشونة التوتر التي تعززها موسيقى العرض ذات الطابع الحماسي الاحتفالي الذي يبتهج كصوت معاصر بهذا العالم القديم.

إنها إذن ثقافة الغرب وتكنولوجيا العالم الرقمي الذي يستخدم البعد الرابع ويحقق في الصورة إحساساً يشبه الواقع، لكنه ذلك الواقع الفني المتخيل، الذي يمزج بين التفاعل الثقافي المصري القديم وبين الرؤية المعاصرة، إنه عمل فني يستحق التأمل والمشاهدة والاحتفاء.

عرض توت عنخ آمون التفاعلي نموذج إبداعي معاصر لعلاقة الفنون الرقمية بالخصوصية الثقافية ذات الطابع العالمي.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز