عاجل
السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فن الاشتياق

فن الاشتياق

بقلم : أمل حجازي

   يقولون ان إخماد الشوق أصعب من إخماد الحرائق. الشوق هي تلك النيران التي تحرقك لغيابه. تسهر الليالي تعد النجوم، يأتي الليل ويجافيك النوم. لن تشبه الأيام نفسها، لن تكون للأشياء طعمها المعتاد. تتمنى رؤيته، أو سماع صوته، أو حتى رسالة صغيرة منه تحوي كلمة واحدة...نعم كلمة واحدة كفيلة بأن تخمد تلك النيران المشتعلة في قلبك شوقا وحنينا له.




 سألوني هل الاشتياق فن؟ ...بالطبع هو فن، ولكن هل تتقنه؟ ولتفهم أكثر، دعني أسألك: كيف تشتاق؟ والشوق الذي أقصده ليس مقصورا على شوقك للحبيب. فالشوق للأشياء والأماكن وكل ما تفتقده ولا تجده يجعل العالم خاليا حولك، فهل تشتاق جيدا؟


      ولنبدأ بالشوق للحبيب. ذلك الشوق الذي غنت له أم كلثوم وقالت " أنا مشتاق وعندي لوعة "، وهو نفسه الذي تعب منه عبد الحليم فغنى: " اشتقت إليك فعلمني ألا أشتاق". ان تشتاق يعني أن تضع أمامك صورة لحبيبك تتأمل ملامحه التي تشتاق إلى كل تفاصيلها، تتحسس بأصابعك تلك التقاطيع وتوهم نفسك بانك حقا تلمسه. أن تشتاق يعني أن تطلب رقم حبيبك وتسمع رنته وكأنها لحن جميل، تنتظر لدقائق ربما تأتيك الكلمة التي ترد إليك روحك " ألو..."! أن تشتاق يعني أن تنسي النوم وتصاحب السهر. ستنام على أمل أن يأتيك في أحلامك لعلك تشبع منه ولو قليلا. ستصحو بعد الحلم حزينا عندما تدرك أن كل ما رأيته كان خيالا. الشوق هو أن تحرق النار قلبك عندما تفتقد حبيبك، فتبحث يا مسكين عما قد يطفئ نارك المشتعلة هذه؛ فتتأمل صوره من جديد، تقرا رسائلكما القديمة سويا، تتابع أخباره من بعيد، تعرف تحركاته دون أن يشعر...ها هل تحسنت؟ ... لا اعتقد، فقد سكبت بنزينا على نارك الموقدة فزادت حرائق شوقك اشتعالا. في حالة الاشتياق المزمن نحتاج لأي مسكن فعال لتهدأ قليلا أعراض الشوق الطارئة. من منا لا يفعل كل ذلك؟ من منا لا يجيد الاشتياق؟ عندما تشتاق تتحالف كل قوى الطبيعة ضدك لتذكرك بحبيبك. لا تسخر ولا تستهن أبدا ممن يبكي اشتياقا، فالحنين يكسر عظام الصدر وجعا.  لو لامست كلماتي السابقة روحك، ودق معها قلبك، وذهب معها عقلك، فأعلم أنك عاشق من الطراز الأول، وأعلم أيضا إنك تجيد الاشتياق وتتقن فنونه القاتلة!


   الشوق القادم هو النوع الأصعب على الإطلاق؛ هو الاشتياق لشخص لم تلتق به وجها لوجه من قبل. لكنك تعرفه جيدا، تراقبه من بعيد، تتابع أخباره دون أن يلاحظ، باختصار أنت تحبه في صمت. سوف تفعل كل ما في وسعك للتقرب منه ولكن المسافة بينكما بعيدة؛ فهو لا يشعر بك، لم تعطه فرصة ليشعر بك، أو ربما سنحت لك الفرصة مرة او اثنتان، ولكن روافد الشوق والحنين تصب في النهاية في نهر المستحيلات. هذا النوع من الاشتياق لا ينفع معه أي دواء ولا حتى المسكنات توقف ألم الحنين في القلب الموجوع. علاجه الوحيد والقاسي جدا في نظري هو " النسيان". ابتعد، انشغل، أخلق حياة لك، وحاول ان تنسى...أحيانا قد تنجح هذه الروشتة، ولكن دعني احذرك؛ فلهذه الوصفة آثار جانبية خطيرة، لن يتسع مقالي لذكرها كلها، ولكن أسوأها على الإطلاق هو " الحنين الي العذاب".


     النوع القادم من الاشتياق فأسميه " الشوق الممزوج بالحنين". فنشتاق للأماكن التي كانت ذات يوم تسعدنا. نشتاق لرائحة، لطعم لذيذ، أو حتى لصوت من زمن بعيد. نشتاق لكل ما مر عليه وقت طويل ولكنه عالق في سراديب عقلك على شماعة الشوق، يهف طيفه عليك من حين لآخر. فأحن لقعدة " الكنبة اللي تحت الشباك في بيت ماما" أو اشتاق لرائحة طعام ماما؛ فلو قامت نساء العالم كله بالطبخ في نفس الوقت سأتعرف على رائحة طبخ أمي من بينهم. هل تصدقون أنني اشتاق أحيانا الي صوت "جدي"-رحمه الله -؟ ... فقد كنت أحب صوته حين يحكي لي حدوتة: مازالت الحدوتة عالقة في رأسي لم أنساها أبدا، لأنها تتكرر بداخلي " بصوت جدي"! ماذا تفعل عندما تذكرك رائحة عطر في المصعد بعطر أبيك؟ أبي المسافر دائما، أحن إليه وإلي حضنه الدافئ الذي أهرب من العالم بداخله، وعندما أترك حضنه أخذ معي قليلا من عطره الباريسي الثمين وكثيرا من حبه الرائع الذي أحيا به. اشتاق أحيانا لضحكة صديقتي المميزة للغاية، فأتصل بها ونتحدث سويا لعلنا نضحك سويا و " أتونس" بصوت ضحكتها المجلجلة من على بعد آلاف الأميال.


 جميعنا نشتاق ونحن لأماكن وأصوات، لرائحة أو لطعم، لذكرى جميلة بتفاصيلها، ولضحكة من القلب بأصحابها. فالشوق لا نهاية له، فطالما أنت حي ستشتاق وتحن؛ وهذا أمر طبيعي، فالاشتياق جزء من النفس السوية.
  والآن هل صدقتم أن للاشتياق فن؟


 عندما " يوسوس" عقلك إلى قلبك ويهمس له قائلا: " قد إيه هو واحشني!!" عندما يجرفك الحنين الى رؤية عينيه، عندما تحرقك نار الشوق فتتعاطى الخيال لتبعد قليلا عن الواقع، عندما تذكرك كل الأشياء به، عندما يكون العالم فارغا بدونه...فأهلا بك في نادي الشوق والحنين للمحترفين فقط!


   كثيرة هي الحالات الحرجة للاشتياق، وكثيرة هي الأغاني التي تتغنى للشوق و " الغلب" الذي يسببه...ولكن هل من مفر؟ لن يكف الحبيب عن احتياجه للمسة، لكلمة، لرائحة، لأي شيء يذكره بحبيبه. عندما تشتاق لشخص ما، فأنت تتمنى أن تحمل كل الوجوه حولك ملامحه. الشوق في الحب هي تلك " اللخبطة اللذيذة " التي تحيرك ولكنك تحبها؛ فحبيبك بعيد، ولكنه في نفس الوقت قريب جدا إلى قلبك. عقلك يتفنن في التفكير به وقلبك يتقن الحنين إليه، ويا ليت هذا أو ذاك ينجحان في إطفاء نار الشوق داخلك؛ أنسيت أنك لم تعد أنت المالك الشرعي لكل من عقلك وقلبك؟ أنسيت أنك تخليت عنهما بكامل قواك القلبية وقت وقعت في الحب؟


يقول استاذي الشاعر الرائع / زاهي وهبي: " مرة أقسمت: سأعتزل الشوق غدا، من يومها ما عاد يأتي الغد".


ملحوظة:


 هناك نوع آخر من الاشتياق لم أتطرق إليه؛ ليس فقط لأنني لا أعرف له شفاءا، ولكنهم أيضا لم يخترعوا له دواءا حتى وقت كتابة المقال. هو الاشتياق لمن غابوا للأبد، لمن رحلوا إلى عالم آخر بعيد، فماذا تفعل عندما تشتاق لشخص فارق الحياة ؟...فأنا حقا لا اعرف!!  



 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز