عاجل
السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
إحسان عبدالقدوس لمحمود عوض: أنـا رئيـس عمل ولست زعيم قبيلة!

إحسان عبدالقدوس لمحمود عوض: أنـا رئيـس عمل ولست زعيم قبيلة!

بقلم : رشاد كامل

ذات صباح فوجئ الصحفى الشاب «محمود عوض» باستدعاء رئيس تحرير أخبار اليوم الأستاذ الكبير «إحسان عبدالقدوس» كان ذلك فى أحد أيام شتاء سنة 1968! هل كان الأستاذ «إحسان» غاضبا من «الصحفى الشاب» «محمود عوض» (26 سنة وقتها)، وما هو سر هذا الاستدعاء؟! هل هناك شكوى مقدمة ضده؟ لابد أن هذه الهواجس دارت بذهنه وهو فى طريقه إلى مكتب الأستاذ «إحسان»!



كان «إحسان» قد تولى رئاسة تحرير «أخبار اليوم» فى ظروف غريبة ومحزنة، بل مريبة أيضا، وكان ضحية صراعات لا دخل له بها!

بداية الحكاية عندما سافر «إحسان» إلى جمهورية «تشيكوسلوفاكيا» فى زيارة صحفية وعاد ليكتب مقالا فى «روزاليوسف» تنبأ فيه بأن «الروس» سوف يهاجمون تشيكوسلوفاكيا، وفوجئ «إحسان» برئيس مجلس الإدارة وقتها الأستاذ «أحمد فؤاد» ورئيس تحرير المجلة «الأستاذ أحمد حمروش» يشطبان بعض سطور هذا المقال، دون علمه واعتبر ذلك إهانة وقرر الامتناع عن الكتابة والبقاء فى منزله!

وحسب رواية الأستاذ «إحسان» للدكتورة «أميرة أبوالفتوح» فإن «أحمد فؤاد» و«أحمد حمروش» اتصلا بالسيد «على صبرى» المسئول عن الصحافة وقتها الذى أصدر قرارا بعزل «إحسان» من «روزاليوسف» وفصله دون أن يخبر الرئيس جمال عبدالناصر بهذا القرار، وحينما علم بعد ثلاثة أيام من صدور القرار أطاح بأحمد فؤاد وعين بدلا منه أحمد بهاءالدين الذى كان فى الوقت نفسه رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال، ويقول «إحسان»:

«دعانى أحمد بهاء الدين بالطبع للعودة للكتابة بـ«روزاليوسف»، ولكنى رفضت نظرا للحزازات التى قد تحدث نظرا لأننى كنت يوما ما صاحبا لهذه المؤسسة، وطلبت منه أن أكتب فى دار الهلال بمرتبى فى «روزاليوسف» وظللت أكتب فيها إلى أن فعل أحمد بهاء الدين معى ما فعله أحمد حمروش من قبل، إذ إنه حذف لى بعض سطور من مقال!

فغضبت لهذه الإهانة الكبيرة، وتركت له المؤسستين وكان فى ذلك الوقت يلح على الأستاذ هيكل، (وكان مشرفا على أخبار اليوم بجانب الأهرام) للعمل كرئيس تحرير لأخبار اليوم فوافقت وانتقلت إلى مؤسسة أخبار اليوم».

كانت هذه ملابسات انتقال «إحسان» إلى أخبار اليوم عام 1966، فما هى ملابسات استدعائه المفاجئ للصحفى الشاب «محمود عوض» عام 1968؟

ما جرى بين الكاتب الكبير إحسان والصحفى الشاب محمود أحد الدروس المهمة فى العلاقة بين الأجيال، وقد رواها بنفسه «محمود عوض» فى مقدمة واحد من أهم وأمتع كتبه وهو «شخصيات» وقال فيها:

«استدعانى «إحسان عبدالقدوس» رئيس التحرير الذى أعمل معه فى جريدة «أخبار اليوم» وقال لى: ممكن تفكر فى موضوع تكتب عنه فى الصفحة الأخيرة هذا الأسبوع؟

سألته مندهشا: أى صفحة أخيرة؟

قال «إحسان»: الصفحة الأخيرة من أخبار اليوم!

قلت محاولا تذكيره أن كاتبها الثابت هو «أنيس منصور»!

رد «إحسان»: أعرف ذلك ولكنى أريدك أن تكتبها هذا الأسبوع!

قلت: لماذا؟ رد «إحسان»: لأن أنيس اختفى ولا أدرى أين هو الآن، ولا متى سيرسل مقاله الأسبوعى!

قلت له: صحيح أن اليوم هو موعد تسليم مقالات الصفحات الثابتة من الجريدة، ولكن أنيس دقيق فى مواعيده كساعة سويسرية وربما نستطيع انتظار مقال أنيس حتى صباح الجمعة!

فقد «إحسان» أعصابه لأول مرة منذ عشر دقائق ورد فى عصبية:

أنا هنا رئيس عمل ولست زعيم قبيلة! أريد منك مقالا للصفحة الأخيرة غدا!!

ويكمل الأستاذ «محمود عوض» عند كلمة «غدا» أحسست أن إحسان وصل إلى النقطة التى يستحيل عندها التفاهم معه، بالطبع «إحسان» رئيس عمل ولكنه يتعامل معى بالحب وليس بالسلطة!

وبالإضافة إلى ذلك فإن الأفكار لا تأتى للكاتب بقرار من رئيس التحرير، حتى لو كان هذا الرئيس هو «إحسان عبدالقدوس»! إن «إحسان» بالنسبة لنا لم يكن أبدا «رئيسا» للتحرير، كان «إحسان» هو الصديق والأخ الأكبر والأب وحامل همومنا والمخفف عن آلامنا!!

كان واحدا ينتمى بحكم شهادة الميلاد إلى جيل آخر ولكن بحكم المشاعر ينتمى إلى جيلنا، مضروب مثلنا، متواضع رغم أنفه، غنى بالأمل كأى شاب، فقير فى السلطة كأى كفاءة، مهزوم كأى فنان، متقوقع على نفسه كأى موهبة، إنها مصر فى سنة 1968وإحسان الذى يستطيع أن يحرك جبلا برقته وليس بعضلاته!

لقد خرجت من مكتب إحسان مباشرة إلى منزل «أم كلثوم» وفى اليوم التالى عدت لإحسان بمقال عن أم كلثوم لكى يرسله إلى المطبعة فورا وينشر فى العدد الذى صدر بعد يومين من أخبار اليوم!!

فى الأسبوع التالى تكررت نفس القصة ولكننى فى هذه المرة كنت أكثر تصميما على مقاومة رئيس التحرير، قلت لإحسان: أنت تفهم أن مقالات الصفحة الأخيرة من «أخبار اليوم» كانت محجوزة للمخضرمين من الكتاب! أننى أشكرك على كل ثقتك فيّ، وأرجوك فى نفس الوقت أن تعفينى من كتابتها على الأقل لأننى أنا الآخر أريد أن استمتع بمقال لأنيس منصور، وأنيس من قلائل كبار الكُتاب الذىن يجرى القارئ وراءهم بحب وشوق ومتعة!!

رد إحسان ضاحكا: خيرا!! بعد قليل خرجت منه كلمات أشبه بالتحية ولكنها أقرب إلى قرار الاتهام: اسمع، أنا أصبحت رئيسا لتحرير مجلة «روزاليوسف» وعمرى 25 سنة، يظهر أنكم فى هذه الأيام جيل مدلل!!

فى اليوم التالى عدت له بمقال عن «طه حسين» وللمرة الثانية نشره إحسان فى الصفحة الأخيرة، ثم ظهر «أنيس منصور» بعد اختفائه فى الإسكندرية لمدة أسبوعين، فى هذه المرة كنت أول من نقل الخبر إلى «إحسان» ثم استدرت خارجا من مكتبه، نادانى إحسان متسائلا: إيه رأيك تكتب صفحة عن الشيخ الباقورى (وزير الأوقاف)!!

قلت: أى صفحة؟! رد مبتسما: أنت تكتب وأنا أنشر!

قلت: ما الذى تريدنى أن أكتبه عن «الباقورى»؟! تساءل إحسان فى عصبية: من الذى يكتب أنا.. أم أنت؟!

كانت عصبية إحسان هى دائما مثل جرس المدرسة.. انتهت الحصة نتكلم فى موضوع آخر!!

ويعلق «محمود عوض» قائلا: غلب إيه ده يا ربى؟! هم رؤساء التحرير مالهم؟!

ألم يسمعوا أبدا عن اختراع اسمه الديمقراطية؟! ثم يمضى قائلا:

«خرجت من مكتب «إحسان» غير متحمس لا للكتابة ولا للباقورى، وظل هذا هو حالى إلى أن حان موعد تقديم المقال، وبينما أنا فى حالة اختفاء كاملة عن «إحسان» وعن أخبار اليوم، عثر علىَّ مصور زميل فى الجريدة وصاح متحمسا بمجرد أن رآنى: أنت فين؟! الأستاذ «إحسان» كلفنى بأن أذهب معك إلى الشيخ «الباقورى» لكى أصوره بمناسبة المقال الذى ستكتبه هذا الأسبوع!

قلت له: ولكنى لم أكتب أى شىء؟! رد المصور مذعورا: لا تكشفنا مع «إحسان» وحياة أبوك، لقد علمت منهم فى الجريدة أنهم حجزوا صفحة خالية من الإعلانات!

لنشر هذا الموضوع، صفحة غير الأخيرة!

هنا سألته بحماس: تقدر تعمل صورة كبيرة على خمسة أعمدة أو ستة مثلا؟!

رد: يا ريت! وشرحت للمصور فكرة الصورة والمعنى الذى أريده منها قبل أن أفكر حتى فى التحدث تليفونيا مع الشيخ «أحمد حسن الباقورى»، وذهبنا إلى «الباقورى» ونشرت الصفحة بعنوان «اعتذار إلى الله».

فى هذا اليوم بدأ إحسان اجتماعه الأسبوعى معنا بسؤال من جانبه: ما رأيكم فى هذه الصفحة الجديدة؟! أنا قررت أن تكون بابا ثابتا بعنوان «تحليل شخصيات» أو من باب الاختصار - نسميها «شخصيات»، ونظر إلىّ «إحسان» ضاحكا وهو يقول: الصفحة دى.. عهدتك!

وبدأت «عهدتى» وبدأت معها مسئوليتى!!

وعند هذا الحد من سطور الأستاذ «محمود عوض» يج الدرس المهم، حيث يقول:

«كان إحسان كبيرا فى ثقته، فنانا فى أفكاره، رقيقا فى لهجته، إنه لايطلب ولكن يقترح، لايفرض ولكن يثير الحماس، لايقرر ولكن يوحى، هذا رجل فنان يريد منك أن تسمو وتكتشف!!

وبدأت أختار الذين أكتب عنهم، كان كل شخص يمثل بالنسبة لى معنى أريد أن أقوله، وبقدر إحساسى بالمعنى كان يأتى انفعالى بالشخص، بعضهم كان الانفعال يبدأ معه بالاختلاف وبعضهم بالموافقة التى تتحول بعد الفحص إلى اختلاف!

وربما يجد القارئ فى هذا الكتاب سطورًا بين السطور وربما يجد معانى مشروخة.. وربما يجد أيضا كلمات ناقصة، إنها مصر التى نعيشها ولا نقرأ عنها، إنها الكلمات التى يمنعها فلتر الرقابة والسلطة من الظهور إلى النور إنها مصر 1968 ، إنها أيضا صدمة التوقعات لكل شاب يجد نفسه فجأة وسط غابة نسميها السلطة!

وفى هذه الشخصيات أيضا عرفت دروسا كثيرة وابتسامات أحيانا، وعندما اقرأ هذه الصفحات الآن (وقت صدور الكتاب سنة 1976) من جديد فإننى فى الواقع أقرأ حلما كبيرا كنت أحياه فى كل مرة!

ويا عزيزى القارئ ترفق بما ستقرؤه فهذه الصفحات قطعة من قلبى.

انتهت السطور الرائعة للكاتب الكبير محمود عوض، أما كتابه «شخصيات» فهو قصة أخرى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز