د. عصمت نصار
ترياق حكيم الهنود وطاعون ملعب القرود
بقلم : د. عصمت نصار
كلما أمسكت بقلمي لأعبر عن ما يفيض به الخاطر وما ينتهي إليه التأمل للواقع المعيش، ولا سيما حال شبيبتنا الذين انقسموا إلى شيع وجماعات وأحزاب لا قدم لها ولا ساق، ولا عقل ولا عقال، تذكرت حديث رسول الله: (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ) وتذكرت أيضاً قول أبي نواس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
وللتضمين والتناص نهوج ودروب، والتلميح في هذا السياق أبلغ من التصريح.
ولما كان داء شبيبتنا يرد إلى متابعتهم لنفر من أمراء المنابر الذين اضطلعوا بالإرشاد والدعوة، كان لزاماً علي البحث عن أفضل الأدوية التي يثقون بفاعليتها، ولا يجرؤ نفر منهم على ذمها أو القدح فيها أو الشك في صحتها، وقد وجدت ضالتي في ترياق الحكماء، والترياق كما نعلم هو لعاب الأفاعي والمضاد لسمها، وقد استخدمه الأطباء قديماً مركباً من سم الأفاعي وبعض لحومها وقليل من الأعشاب والنباتات الزهرية لمداواة الملدوغين والملسوعين على وجه الخصوص (مصل مضاد)، ولم أجد في هذا السياق أفضل من خطاب الداعية الهندي (أبو الحسن الندوي (1914-1999م)) -الذي يعتبره الإخوان المسلمون والسلفيون المعاصرون معاً، إماماً وقدوة ومرجعية دينية- لأتخذ من كلامه ترياقاً لذلك السم الذي أصاب شبيبتنا المتدينين، فجعل منهم قروداً في حرصهم على التقليد وأفاعٍ تلدغ الآمنين والمسالمين.
ولما كان المقام لا يتسع للإحاطة بكل جنبات خطابه الدعوي، فسوف أشير في عجالة إلى آرائه في القضايا المطروحة، وأحيل القارئ لمصدر الكلام ليستوثق ويستزيد.
وتتمثل القضايا المطروحة في مدى مشروعية وجود جماعات تحتكر فصل الخطاب في الأمور الدينية، أو تشمخ بأنوفها وتتعالى على المجتمع بحجة أنهم يمثلون الفرقة الناجية، أو يتخذون من إمامهم ولي ومرشد، ومن تعاليمه ديناً ومنهاجاً، طاعته واجبة، والخروج عليه إثم وردة. والجواب نجده عند الشيخ الندوي في حديثه عن مقام النبوة والولاية والإمامة، فيؤكد على أن سيرة النبي دون غيرها هي التي يجب على كافة المسلمين اتباعها، وما دون ذلك يدرج في أبواب الشطح أو التنطع في الدين.
والقضية الثانية التي يطرحها شبيبتنا هي البحث عن حقيقة دلالة تغيير المنكر والأمر بالمعروف. وخصال الداعية وحكم سعيه للريادة والقيادة والحكم، يجيب الشيخ الندوي أن مهمة الدعاة امتداد لمسيرة الأنبياء الذين جاؤوا للتبشير والتنذير والهداية والتقويم بالمعروف والدفع بالتي هي أحسن، فغاية الأنبياء هي تنقية السرائر وتحليتها بالفضائل، وتخليتها من الرذائل، وهذا عمل جواني لا إجبار فيه أو إكراه، والداعية الرشيد هو الذي لا يطمع إلا في مرضاة الله، ومن ثم لا يتكالب على منصب أو جاه ولا يزاحم في طلب الحكم؛ فالولاية قدر بيد الله وحده وهو المعز والمذل.
والقضية الثالثة تبدو في حيرة الشبيبة بين الولاء للوطن والقومية والهوية الثقافية، والفطرة الدينية، وأي الولاءات أحق ؟ يوضح الشيخ الندوي أن الولاء للإسلام أعم وأشمل وأصدق، وذلك لأنه لا يتعارض مع مبدأ المواطنة والميل للقومية والثقافة التي نشأ فيها المسلم، والخطر الذي يحذر منه، هو أن تحل العصبية للوطن أو العروبة محل الإسلام، فتخرج المسلم عن ثوابت عقيدته وتقذف به في دياجير ظلمة إنكار التوحيد، وتبديل أصول الإيمان والإسلام.
وأخيراً يتساءل شبيبتنا عن مدى مشروعية الجهاد المسلح ضد المجتمع، لتطبيق حدود الله، أو الاستيلاء على الحكم، فيصرح الندوي في غير موضع من كتاباته أن النبي –وهو المنوط الأول بالتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة- لم يكون جماعات أو عصابات في مكة للاستيلاء على الحكم، أو إرغام المشركين على تطبيق ما جاء به –وهو الحق- كما أن النبي لم يكره من دخلوا في ذمة المسلمين، أو من قدر عليهم بعد حرب، أو من أمنوه في بلادهم، على الدخول في الإسلام، وعليه فكل شكل من أشكال العنف لفظي كان أو مادي يتعارض تماماً مع الخطاب الدعوي الإسلامي، فلا جهاد بالسيف ضد المسلمين، وإن كانوا مارقين أو عصاة، ولا حرب ولا سلب ولا نهب ولا سبي لأمم وممالك مسلمة أو غير مسلمة، ما دامت لم تشن حرب ضد المسلمين لإخراجهم من دينهم، وعليه فكل مظاهر العنف التي تصدر من بعض الجماعات المتعصبة في البلاد الإسلامية تدخل في باب الفتن والجنوح عن سماحة الدعوة.
وأخيراً يرى الشيخ الندوي أنه لا يجوز للمسلم الحفاظ على هويته في المجتمعات المسلمة أو غيرها عن طريق العنف والصراع الدموي، فقد كتب لإنديرا غاندي يوم احتدم الصراع الملي بين الهندوس والمسلمين ناصحاً بانتحال العلمانية والدساتير المدنية الداعية لتطبيق مبدأ الديمقراطية في تسييس أمور الهند، حتى لا تتعرض الأمة الهندية للخراب وسفك الدماء، وأكد أن العنف والإرهاب ليس له دين يمنعه من أن ينقلب القائمون به على أنفسهم طمعا في الرئاسة والملك.
وها هي كلمات أبي الحسن الندوي تعبر عما أوردناه وجميعها مقتبس من رسالة (اسمعي يامصر) ورسالة (أريد أن أتحدث إلى الإخوان) وكتاب (في مسيرة الحياة) وكتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).
احييكي يامصر بتحية الإسلام، وأحيي فيك الزعامة للعالم العربي.... أحيي فيك الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين والعلم للعالم الإسلامي... وأضاف أنك الجسر والقنطرة التي تعبر خلالها الثقافات من آسيا وأفريقيا وأوروبا، ثم تنصهر في بوتقتك وتخرجيها علماً وأدباً أفضل مما كان، أما رسالتك المأمولة فهي الاضطلاع بحمل لواء الدعوة الإسلامية السمحاء إلى شتى بقاع الأرض، وكيف لا ؟ وأنت درع الإسلام الحصين والمؤهل للقيادة إلى يوم الدين، لذلك ينبغي عليك يا مصر أن تحمي أبنائك من شرور الفتن والتغريب والفساد والتعصب والمجون.
ومن أقواله التي كان ينصح فيها الإخوان بخاصة والدعاة بعامة:
ليست رسالة الداعية قلب نظام فقط أو تغيير وضع سياسي بوضع سياسي آخر، ونظام اقتصادي بنظام اقتصادي آخر، ولا نشر الثقافة والعلم ومكافحة الأمية والجهل، أو محاربة البطالة والتعطل، أو معالجة عيوب اجتماعية أو خلقية إلى غير ذلك... إنما هي دعوة الإسلام التي تشمل العقيدة والأخلاق والأعمال والسياسة والعبادة والسلوك الفردي والاجتماعي... وتنبع من القلب قبل أن تنبع من القلم، أو صحيفة كتاب، أو منصة خطاب، وتنفذ على جسم الداعي وحياته، قبل أن يطالب بتنفيذها على المجتمع والأمة.
وبين رحمه الله أن الداعية الحق هو الذي يمتاز عن غيره برقة السريرة والزهد في متاع الدنيا سيراً على سنة النبي وصحابته، حيث التجرد من التفكير في المنافع المادية والثمرات العاجلة، وتجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا، ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم، والحصول على الحكومة، حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم...ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من غاياتهم... إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد، كالثمرة التي هي نتيجة طبيعية لنمو الشجرة وقوة إثمارها... وفرق كبير أيها السادة بين الغاية التي تقصد والنتيجة التي تظهر... فالذي يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها... ويطغى إذا نالها...
ولم يبق لنا سوى أن نتساءل:
- هل ما يفعله الإخوان من تخريب وتقتيل وإفساد وقدح وشتم وكذب من أصول الدعوة ؟
- وهل ما تفعله (داعش) من تقتيل المسلمين وتخريب بلادهم وإيذاء الذميين وسبي نسائهم جهاد إسلامي؟
- وأخيراً نتساءل عن المسئول عن تلك المعتقدات الفاسدة التي تدفع شبيبتنا إلى ذلك العبث باسم الدين والشرعية، هل هو مشرع الحدود ؟ أم النبي الودود ؟ أم ملعب القرود ؟
















