د. عصمت نصار
الدين والشَرَك الأكبر
بقلم : د. عصمت نصار
لم يخطئ الحكيم الصيني "كونفوشيوس" والفيلسوف اليوناني أرسطو عندما اتفقا على أن الفضيلة تكمن في الوسط الذهبي بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط، ومن المؤسف أن بعض معاصرينا من المتعالمين وأمراء المنابر لم يعوا هذا الدرس ولم يفطنوا إلى العديد من الحقائق، أولها الفارق بين التجديد والتبديد في الحكم على القضايا التي تتعلق بالتراث بعامة، والثابت والمتحول من مشخصات الهوية بخاصة. ولم يتفهموا كذلك البون الشاسع بين الثورة الدينية التي تهدف إلى الإصلاح، والثورة على الدين التي ترمي إلى الإطاحة به والتخلص منه.
وظنوا أن العوج والانحراف والجنوح يقوّم بضده، وفاتهم أن التثقيف يحتاج إلى معيار أو مقياس أو ميزان ثابت لإصلاح ما جنح ورد ما شطح.
وقد غاب عنهم أيضًا الأساليب المعاصرة في هدم المجتمعات المتمثلة في إشعال نار الصراع بين الاتجاهات الفكرية والعقدية المحيطة بالمركز وتغذية الأطراف المتنازعة بما يمكنها من استمرار الجدل والتثاقف على نحو لا يمكن أحد الطرفين من حسم القضية أو التسليم بصحة منطق الآخر أو على أسوأ التقديرات إرجاء المختلف حوله وتقديم المتفق عليه.
وإذا قال قائل أن هذا النهج لا يختلف عن نهوج المستشرقين السياسيين والقوى الاستعمارية الصهيونية التي طالما صوبوها لتتفشى في الأمم الغافلة وأن شعار (فرق تسد) هو الدرب الذي سلكوه منذ القِدم، فإننا نقره على ذلك غير أن هذا النهج قد تطوّر في ظل علم الفيديولوجيا وتزييف الحقائق واختلاق الأحداث وغير ذلك من الأساليب الإعلامية وأدوات التواصل الجماهيري التي تعمل على إثارة الرأي العام وتضليله.
وليس هناك أدل على صحة ما تقدم من واقعنا المعيش وإليك بعض صور ذلك الخلل :-
أن حملتنا على سلوك الاتجاهات الراديكالية والإرهابية المفرطة في تقديس العديد من الأفكار غير الأصيلة أو المختلف عليها وبعض الأحكام الظنية قد جعلنا ننتقل من الإفراط إلى التفريط وما أكثر البرامج التليفزيونية والفيديوهات والتويتات والأقوال المجتزأة التي تشير إلى أن الدين الإسلامي بخاصة والأديان بعامة هي المسؤلة عن الإرهاب وأن السبيل إلى الإصلاح هو تبني الفكر العلماني الغربي أو الإلحاد أو جعل الدين من المسائل الشخصية التي لا دخل للمجتمع و القانون و الأخلاق والتربية فيها.
وعلى الجانب الآخر نجد المتعصبين للدين يشيرون إلى تلك الآراء الهدامة على اعتبارها روح الثورة والبديل أو المستقبل المنتظر لهذه الأمة ويبرزون الأقوال التي تبيح الانحلال الخلقي باسم الحرية وتدافع عن الإباحية باسم حق الإبداع والمثلية الجنسية باسم حقوق الإنسان والعري والتبرج لمكافحة النقاب والحجاب وربط إطلاق اللحا بالإرهاب ويصورون أنفسهم بأنهم ذلك المتهم البرئ المضطهد من السلطة الحاكمة لانتصاره للدين.
ناهيك عن المناظرات غير المتكافأة بين المتشيعين للإفراط والمتحزبين للتفريط فمعظمها ينتهي بالشتم والقدح دون أدنى احترام لآداب التناظر أضف إلى ذلك سيادة المنطق الفاشي والأسلوب الإطاحي المترسخ في أذهان المتساجلين الأمر الذي يؤكد وقوعنا في الشَّرَك الذي سوف يؤدي حتمًا إلى تفكك المجتمع وتشتت العوام وتشكك المثقفين والحرب الأهلية أو على أحسن التقديرات فوز أحد الطرفين المتصارعين وكلاهما آثم ومرذول.
وعندي أن جهلنا لخبراتنا السابقة وتجاهلنا لتجارب الأغيار هو الذي سوف يقودنا إلى ذلك المصير فقد سعت القوى المتآمرة -على الشرق الإسلامي- إلى إضعاف الطبقة الوسطى وتجهيلها وتزييف وعي قادتها وذلك بغرس التبعية والتقليد والتعصب فيهم من ناحية والتغريب والفوضوية والتشكيك في أصالة الهوية والإلحاد من ناحية أخرى، فاستحالت المعاهد الدينية في بدايات القرن السابع عشر إلى مطالع القرن التاسع عشر إلى مدارس راديكالية تراثية جامدة وذلك لربطها بين الثابت والمتحول في الدين ووضعهما في سلة المقدس وجعل دونهما من الأفكار في سوق المدنس وعلى الجانب الآخر تسللت الماسونية والشيوعية والجمعيات الإرهابية وغير ذلك من الاتجاهات الغربية مثل الفوضوية والوجودية والنازية والصهيونية والفاشية في الجانب الآخر.
ومن ثم جاءت الحاجة إلى ثورة دينية قادها "حسن العطار" و "رفاعة الطهطاوي" و "محمد عبده" ومدرسته و "العقاد" و "عبدالمتعال الصعيدي" و "محمد الغزالي" وغيرهم من قادة الفكر ورواد حركتي التجديد والإصلاح وجميعهم ينتمي إلى الاتجاه المحافظ المستنير الذي يمثل رمانة الميزان في نهضتنا الفكرية وكان دربهم هو الوسطية (لا إفراط ولا تفريط) والفلسفة الغيرية حيث الاستفادة من الأطراف للوصول إلى الوسط العدل ودراسة الواقع بعين العالم الواعي بطبيعة العقل الجمعي من جهة ومقتضيات وآليات النهضة والتقدم من جهة أخرى.
ولعل ما نحن فيه من مظاهر التخبط يرجع إلى غيبة الطبقة الوسطى وما كان يصاحبها من اتجاهات وتيارات عاقلة ، فعلى الرغم من تباين الرؤى بين المجددين إلا أن وعيهم بصالح المجتمع هو الذي كان يحد من تطرفهم ومن غلوهم كما أن غلبة الاتجاه المحافظ المستنير على دونه من الاتجاهات الرجعية المتعصبة للقديم والتغريبية المتشيعة للجديد كان أيضًا من أهم الأسباب التي حمت مصر من الوقوع في الشَّرَك.
ولا غرو في أن دعوة "السيسي" لثورة دينية قد رُوّج لها أسوأ الترويج إلى درجة أنها وضعت الثورة المصرية في دائرة الاتهام وجعلت من صاحبها شيطان أكبر يسعى إلى المروق عن الدين وهدم الثوابت، الأمر الذي جعل أنظار العوام تغفل شيئًا فشيئًا عن أولائك الإرهابيين الذين استحلوا دمائنا باسم عقيدة زائفة، وأعتقد أنه لو استمر الحال على ما هو فيه من تردّي وعدم الإلتفات لذلك الشرك فإن النصر محتوم للخلايا الراديكالية الدينية التي تعد في الخفاء عوضًا عن الإخوان والسلفيين وداعش والحوثيين وبيت المقدس وغيرهم من اللذين سقطوا من على المسرح السياسي.
وأخيرًا أحذر: فوتر الدين حساس لا ينبغي المساس به إلا من قبل العلماء بغض النظر عن اجتهاداتهم، وأن التجديد يحتاج إلى دربة ودراية للفصل بين الثابت والمتحول وأن مخاطبة الرأي العام له ضوابط، ولم يخطئ "الغزالي" في مقولته (إلجام العوام عن علم الكلام) وقد صدق "ابن رشد" في تنبيه الأذهان إلى ما بين الحكمة والشريعة من اتصال.
ولا يعني ذلك إخراس المنابر الناقضة أو الحجر على الآراء المتطرفة أو إسكات الأصوات الجاهلة فكلها تشكل القوى الغيرية التي يحتاج إليها الوسط العدل لتجديد آلياته في التعبير عن خطابه وتقويم ذاته وتحديث مناهجه.
وقد صدق العقاد عندما وصف الأفكار الجانحة والرؤى المتعصبة بأنها الدين الذي يَصْدُق عليه وصف "ماركس" بأنه أفيون الشعوب وأن الشرك الحقيقي في الإتجار به والتعصب له أو اتخاذه سلاحًا لطعن الآخر، ولنتذكر جميعًا أن الثورات الحقيقية هي التي يقودها العقلاء ويسير في ركابها الجمهور الراغب في البناء.
















