د. عصمت نصار
جحا يكشف أوراق القضية
بقلم : د. عصمت نصار
عاد جحا إلى منزله فاراً من الصحفيين ومندوبي القنوات الفضائية، الذين كانوا يطاردونه بالأسئلة ويطالبونه بالتعليق على التصريحات التي صدرت من وكالات الأنباء العالمية، التي كانت تتابع وقائع الجلسة، ولم يشغل جحا مما قيل سوى معضلة أثارها ممثل الدفاع وأحد شهود الإثبات، وتتمثل في جدلية دور الحاكم ومسئولية المحكومين في بناء الدولة، فراح جحا يتسائل: هل في مقدور الحاكم وحده إصلاح ما حاق بالمجتمع من فساد؟ وهل الفساد يرد إلى خلل في النظم ورعونة في تطبيق القوانين؟ أم يرد إلى أخلاقيات الناس وهشاشة الوازع الديني والقيم الروحية والثوابت العقدية؟ أم لتفشي الأنانية وتجاهل التضامن الاجتماعي وضعف مقومات الولاء والانتماء -بداية من التعاون العائلي، ونهاية بشتات الروح الجمعي وهو المكون الرئيسي للرأي العام-؟
ولو كانت القيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية هي المسئولة عن سلوك أفراد المجتمع فكيف السبيل إلى إصلاحها؟
وحينئذ نظر جحا إلى مكتبته، وأخرج العديد من الكتب التي تتحدث عن فلسفة الاجتماع والتاريخ والتربية والأخلاق والسياسة، وراح يتأمل آراء ابن خلدون ومكيافيللي وشوبنهاور وماركس وماو تسي تونج وسارتر وهايدجر؛ أملاً أن يجد فيها حلاً لهاتيك المعضلة، بيد أنه أدرك أن النظريات المرسلة لا يمكن الاستعانة بها أو تطبيقها دون معالجة وتطويع، أي الأخذ بالمنهج دون المذهب، ولمصر تجربة في العصر الحديث لم يفسدها سوى التآمر عليها من الخارج ومكائد الخونة والعملاء من الداخل، ألا وهي تجربة بناء الطبقة الوسطى التي طبقت قانون أرنولد توينبي (التحدي والاستجابة) خير تطبيق، وتتمثل في:
حاكم مخلص لفكرة التقدم في السعي والعمل.
الاستفادة بتجارب الأغيار وخبراتهم بعد تطويعها.
مد جسور المعرفة إلى كل صوب ودرب.
إيجاد طبقة من المثقفين المخلصين لإقناع الرأي العام التابع بخطة النهضة.
الإطاحة بكل المعوقات وتغليب سياسة الصالح العام على المصلحة الخاصة.
ربط الحريات بالوعي، وتفويض العلماء في اتخاذ القرار، وتفعيل منطق المستبد العادل فتطبيق القوانين، وترتيب الغايات تبعاً لأهميتها من جهة، وتوفر مقومات تحقيقها من جهة أخرى.
الاعتماد على الذات في تحقيق الأمن والعمل لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات وإيجاد البدائل للحلول غير الممكنة (تحدي المعوقات واستجابة الرأي العام لروح النهضة).
وبهذه النتيجة قرر جحا الدفع بما توصل إليه في الجلسة التالية، وذلك لإثبات حق مصر في رفع الدعوى، وذلك لأن الفساد -بحسب ما جاء في مذكرة الادعاء- قد تغلغل في أنفس جل المصريين سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، كما أن الاعتماد على الجماعات الدينية والجمعيات الأهلية في الإصلاح لم يولد سوى بؤر للإرهاب والتطرف والمجون والفوضى، ومن ثم يكمن الحل في إعادة بناء الطبقة الوسطى، وهو من الأمور التي لا يمكن تحققها بين ليلة وضحاها، وذلك لأن آليات البناء متشعبة ومتداخلة (تربية، تعليم، ثقافة، إعلام، اقتصاد، منظومة القيم، والارتقاء بالذوق العام) وجميعها على درجة واحدة من الأهمية والأفضلية، وعليه فالمصريون إذا ما أرادوا إثبات بنوتهم وانتسابهم لمصر أن يعملوا لتفعيل هذه الخطة والإخلاص في العمل لإعادة بناء الطبقة الوسطى، وذلك بالاعتماد على أقل مؤسساتهم فساداً، واستبعاد الوافد والغريب والشاذ والمتناقض مع مشخصات الهوية المصرية، وهي من الأمور الثابتة في العقل الجمعي.
بدأت وقائع الجلسة الثالثة وقدم جحا المذكرة التي دبجها، وجاءت مطابقة إلى حد كبير مع ممثل النيابة، فقام القاضي بتلاوتها، غير أن بعض الشهود طلبوا الإذن في الحديث معترضين على ما جاء في مذكرة جحا سابقة الذكر.
أحد الشهود: كلام جحا عن المستبد العادل هيفتح الباب على الدرفتين لزوار الليل وقانون (مالك ده جبته منين) هي مصر عايزة ايه؟ فلوسنا وورثناها وتاجرنا وكسبناها وفي البورصة والبنوك وفي السوق شغلناها، وضرايبنا دفعناها، ومصر بعد كده عاوزة تاخدها تصرفها ع الكسلانين، والفقرا والعيانين، وياريتها هتوصلهم، لا وحياتك هياخدوها باشوات النظام ونواب البرلمان الي مبناخدش منهم غير كلام، أما التعليم والصحة والتموين اذا كنتو عاوزين تصلحوه خصخصوه، وانتو بالرقابة ظبطوه، هتقولي نهضة صناعية واستصلاح اراضي وأمن غذائي ومؤسسات قومية هقولك مياكلش معانا، احنا عاوزين استثمار ظريف، اتصالات وقرى سياحية وقنوات فضائية، اسكان ما يضرش، جماعات أهلية، حاجات كده ف الخفيف، قرش يرجع عشرة، وهندي مصر قطمة م الرغيف، والي ميلزمهاش هنشغله بره، استيراد وتصدير من الصين لأفريقيا، وبصل سوهاج نوديه باريس، فاهمني ياشريف؟ والي هيعمل غير كده هنكعبله وحجارة ف نص الطريق هنحطله، احنا اصحاب البلد دي، الي بيعجبنا بنركبه، والي يعارضنا بنقلبه، وده قانون معروف، ركب أوباما وينزل التخين حتى لو كان حكيم وفيلسوف، ولو النظام استخدم الغشامة والقوة والرزالة، فلوسنا هتطير زي الحمامة، وهنخلي الشعب يزيط، ونحرض العيال السيس والمدمن والعميل والبلطجي والجاهل والعبيط، وهنجيب عشرين كلامنجي يعبولنا هجايص في مية الف شريط.
جحا: يعني انتو عاوزين تخربوها وبالسكتة القلبية تموتوها، لا وحياة الي خلقك، مصر مش هتركع، ولكيد الحاقدين بره وجوه مش هتخضع، وان غدرتم بالبطل غيرو من بين أسودها هيطلع، الميغة الي كنتو فيها بوعي الناس مش هترجع، وان كسبتو القضية في الابتدائي هنستأنف وننقض ونطعن، مصر مش هتبقى إلا للمصريين، الي علمو الناس الذوق والسماحة والكرم، والحياء والعفة فيهم عادة والوسطية والرحمة فيهم دين، سامعين؟ أنا الشعب، أنا العامل في المصنع الي بجشعكو قفلتوه وبعتوه، وأنا زارع القطن الي علشان مكن الخواجة حرقتوه، وانا الاستاذ الي حفظتوه، ولما نسي جوعتوه، ولما خان مهنته بطلتو تدوه، وانا الفنان الي رفض يتاجر بفنه، ففي بيته قعدتوه، وانا المؤهل العاطل الي بغبائكم هجرتوه ويئستوه، وانا الطبيب الي خدتو منه الرحمة والتجارة بالناس علمتوه، وانا الجندي الي شايل روحه على كفه، الي شتمتوه وأهنتوه، ايوه انا كل دول، وبناتي ناعسة وبهية وخضرا وصفية وام كلثوم، ايوه انا عرابي ومصطفى وزغلول، ومش ملايكة وفينا الي فينا، أخطاء وعيوب، وزلات عملناها بايدينا، لكن مخوناش ومبعناش، ومقولناش مش بانيين ولا على حدودها مش واقفين، عشان احنا بس المصريين.
كلمة هقولها للتاريخ وانور بيها المحكمة، الشيطان مبيدافعش إلا عن عياله، وابن الحلال عارف امه وأبوه، وابن الحرام ابوه القرش وللقمة ولاؤه، علشان مصر انا بدافع، مش علشان زيد او عبيد وثورة وصندوق جابه، علشان ترابها ونيلها وجدودي الي ماتو، علشان بكره الي جاي مع ولدي برسالة الحب الي بتجري في دمه وهيورثها لعياله وبناته.
القاضي: ترفع الجلسة وتؤجل إلى يوم الحسم للنطق بالحكم.
















