عزيزي .. هل أنت مخترق فكريا .. (3)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
تناولنا سابقا أركان النفس البشرية والتي هي الحد الأدنى لضمان استقرار ووضح الرؤى للإنسان والتي تمنع أو تحد من عملية الاختراق الفكري وقلنا أنها سبعة أركان واستعرضنا سويا الأركان الثلاثة الأساسية وهي (وضوح المفاهيم) ثم (الأمانة الذاتية) ثم (الذكاء النفسي) ، وتناولنا في إيجاز لعله غير مخل مكونات المفاهيم الثلاثة الرئيسية والتي بها ينضبط إيقاع البشر في حياتهم على الأرض (الله – المهمة – الدين) وبالتالي فهي الأهداف الرئيسية التي يسعى شياطين الإنس والجن لتدميرها بالضلال .
واليوم نتوقف عن مفهوم جديد من المفاهيم الأساسية والتي يتوقف عليها الكثير من تعاملات الإنسان وأخلاقياته وبالتالي تبعات حياته كاملة وهي مفهوم (الحدود) ، ولست أعني الحدود بمعناها الفقهي والشرعي كعقوبات على الخطايا والذنوب ، بل أعني الحدود بمفهومها الإنساني الأكبر والأوسع ، فمن البديهي أنني أمتلك جسدا له أبعاد محددة وفي محدوديتها إشارة بليغة أنني لا أمتلك حرية التحكم والاختيار الكاملة على الدنيا سوى ما يقع في حدود هذه الحدود القليلة جدا مقارنة بحجم الدنيا حولي ، وكلما ابتعد مكان وزمان الأشياء حولنا فأننا نفقد معها جزءا من قدراتنا على التحكم أو التعامل معها وهو ما يوضح في نفس كل منا قدره الحقيقي في الدنيا وبين البشر وقدراته في التعامل ، بل إن قدراتنا محدودة جدا في التعامل مع حتى ما تحتويه أجسادنا من أجهزة ومكونات .
وأول قواعد الاتزان النفسي هو اليقين بالمساواة بيني كنفس وبين باقي البشر في الدنيا أيا كانت مقدراتهم وظروفهم ولكل نفس حقها فيما أعتقد أنه حقي في الحياة والدنيا ، ورغم يقين كل منا بذلك كمعلومة إلا أننا فعليا ننكرها في نفوسنا ولو جزئيا أو وقتيا مع بعض الأشخاص وربما مع الغالبية من البشر ، وهذا المفهوم قد اختل بشدة خاصة خلال العقود السابقة حتى اعتدنا فيها على عدم احترام حقوق الغير واحتراف التعدي على حقوقهم سواء العامة أو الخاصة ، وبذلك نحن ننكر حقيقة ناموس الخالق في خلقه والذي يقضي بأنني لا أزيد شيئا عن أي إنسان آخر ، وهو ما لابد وأن يجعلننا مدركين أن قول رسول الله (والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه) ليس دعوة للحب مطلقا بل دعوة للذكاء في التعامل مع الله في خلقه ، فكلهم عياله ورعاياه وعبيده مثلي تماما ولا أفضلية لأحد منا إلا بعمله الصالح وما ينفع غيره من خلق الله ، وهو ما أكده المولى عز وجل مرارا وتكرار لعل ابن آدم يعي ويفهم ويدرك حقيقة قدره وهو ليس بالقليل فكلما أدركت النفس أننا جميعا من سديم واحد وأصولنا ومستقرنا في النهاية واحد ، كانت سعادة غيري هي جزء من سعادتي وراحة غيري هي جزء من راحتي وفائدتي الشخصية حتى ولو حسبت بدائرة الفوائد التي دوما تعود لصاحبها طبقا لناموس الكون والحياة ومفاهيم كفالة وثبات وضمان الرزق على الله ولا أحد سواه ، وبالتالي فمن أبسط قواعد الحدود هي جملة كنا نرددها لأبنائنا كثيرا (حدودك تنتهي عند حدود الآخرين) ونزيدها فنقول أن ذلك هو أقصى مساحة متاحة للحدود ، لأن رسول الإسلام محمد علمنا حدودا أخرى تقل كثيرا في إطار ما نسميه بالحياء ، لأن الحياء يمنع ابن آدم من التمتع بكامل حدوده لأن الحياء أعلى درجات الأخلاق وأرقى مستويات الإيمان .
تلك عن حدود الإنسان وشعوره بها في دخائل نفسه والتي تترجم بعد ذلك في صورة تكامل مع غيره من البشر وليس صراعا من أجل الاستئثار بما هو أصلا مقسوم ولا حيلة فيه ، ولن ينال ابن آدم منها إلا ما كتبه الله له ، فقد فرض الله الحدود على ابن آدم بعد أن ضمن له رزقه وما سوف يناله في الدنيا حتى رحيله عنها ، وبالتالي فلا صحة مطلقا لما توغل وتفشى بين البعض خاصة الشباب من أقوال وادعاءات (أنا حر ما لم أضر) كذريعة لتجاوز كل حدود الله مع خلقه ما داموا لا يستطيعون منعه أو الاعتراض ، أو ما دامت أفعاله في نفسه التي هو حر فيها وهي الذريعة التي رأينا من نتاجها أبناءنا يرتدون ملابس الشواذ والمخنثين في الغرب وأصبحت بناتنا ونساءنا عرايا وأشباه العرايا وأجسادهن معروضة بالتفصيل الدقيق لكل العيون ، وهو قمة انعدام الحياء وبسقوطه تفشى الزنا والاغتصاب والمخدرات والسرقات والقتل ، بل أبسط من كل هذا تسمع سيدة وربما بنتا تسب بأفظع ألوان السباب وآخرون احترفوا تعاطي المخدرات ويتباهون بممارسة الجنس ثم الشذوذ ثم الكفر والإلحاد كوسيلة للتعبير عن الذات وإظهار النفس تحت مسميات الحرية وهي في الحقيقة اختراقا وتدميرا لكل الحدود ، بل وصل بنا الحال أن نعتاد العري والفواحش ومخاطبة الغرائز والشهوات باسم الحب والعشق الممنوع والخطايا حتى أصبح الإقدام على مشاهدة القنوات الفضائية أكثر فحشا من التجول في غرف النوم لأحد بيوت الدعارة ليلا .
وفي إطار هذه الحرية يجد الجاهلون وضحايا الفجور فرصا ذهبية لمهاجمة كل القيم والثوابت الأخلاقية وإنكار الحدود فتجد من ينكر الفروض والمناسك بل من يدعي أنها عادات قديمة مثلما تدعي أنثى أن الصيام عادة وموروثات لا معنى لها ولا فائدة منها وآخر يرى أن الصلاة عادة قديمة هو في غنى عنها ، بل وبعضهم يرى أن الحج نوع من ممارسة الطقوس الوثنية وهو ما يفتح الباب لهدم القيم والمبادئ الأساسية للإسلام كدين سماوي جامع ومتكامل بل ويهدم كل بقايا القيم لجميع الأديان من قبله ، خاصة عندما ترى على الجانب الآخر فتاوى تجار الدين المدفوعة والمتآمرة والتي تنفر من الإسلام ومن كل دين ليقع كل من اهتزت مفاهيمه فريسة سهلة للانحراف والدمار في إطار مراسم تنفيذ قسم إبليس لرب العزة (فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين) ، وبتوالي الأجيال وتتابع توارث الجهل بالمفاهيم تسقط البشرية في مستنقعات الضلال والبهتان وهو ما حدث بالفعل حتى للمسلمين ومن يدعون أنهم خاصة الله وأولياؤه وأصحاب الجنة بلا منازع ، ويدعم النفور من الدين جناحان لا ثالث لهما ، الأول تعنت وحمق القائمين على الدعوة وتمسكهم بكل الخرافات والمدسوسات وأفكار التخلف الموروثة من السلف ، والثاني هو الإغراء والإبهار من تقدم من كفر بوجود الله ومع ذلك يبهرك تمتعهم برفاهية الحياة على الأرض ورقي مظاهر حياتهم اليومية في مقابل التخلف والغرق في مستنقعات القذارة والخرافات والجهل والمرض والفقر التي تعاني منها المجتمعات التي تدين بأديان سماوية مثل الإسلام ، غير مدركين أنهم زورنا كل المفاهيم الأساسية لديننا والتي ساد بها من كان قبلنا الدنيا لعشرة قرون ، وما سقطوا إلا عندما زوروا المفاهيم كاملة وصدقناهم واستمرأنا البهتان وعشقناه وقدسناه وأضفنا لها مزيدا من مفاهيم البهتان والضلال على إنها أصول للدين وقواعد التعامل مع الحياة والبشر .
وبالتالي فمفهوم الحدود للنفس مع الله ومع خلقه وأولهم البشر هي من أخطر المفاهيم التي لابد وأن تغرز في نفوس الأطفال وأبسطها وأخطرها مفهوم أنني كطفل لست الوحيد الجميل والرائع والمحبوب دون أسباب ولكننا جميعا سواء وأفضلنا أكثرنا طاعة وخلقا وعلما وعملا وفائدة لغيره من البشر وإعمارا للأرض حوله ، فمفهوم الحدود أول ما يحفر في النفوس في السنوات الخمس الأولى من عمر الإنسان على الأرض ، وكونه طفلا لا يعطيه الحق أن يفعل ما يشاء دون اعتبار لحدود غيرنا وحقوقه بحجة الطفولة ، كما يفعل الغالبية العظمى منا ، ثم نتعجب بعدها ونحن نرى قدور طاعة وأدب وتقدم والتزام وروعة أطفال الشعوب مثل الكوريين واليابانيين بل وفي الغرب مقارنة بسوء الأدب والحمق والغباء والفوضى والتخلف في أطفالنا تحت مسميات الحرية والطفولة والتربية الحديثة ، والتي من نتاجها ما نراه من فوضى الاعتراض وسوء الأدب والنزوع للعنف والتمرد من أجل التمرد والرفض ثم الانحراف بنسب كبيرة ، والأخطر فيمن هرعوا للمدارس الأجنبية ليرتقوا بالمستويات العلمية لأبنائهم فحصدوا شبابا مؤمن بالحرية الشخصية لمستويات التمرد على الأهل والأخلاق والكفر والإلحاد والانحراف النفسي والأخلاقي والإباحية وحتى الشذوذ .
تلك هي خطورة غرس المفاهيم المغلوطة عن الحدود في نفوس الأجيال والتي نتجت عن فشل الخطاب الديني وتزويره لشعب متدين بالفطرة ، ومحاولة القفز للحاق بركب التقدم العلمي للغرب والشرق بتقليد العادات الظاهرية المنحرفة عن مسار الأخلاق ، والتي يقابلها نفس الأسلوب بالقفز إلى ملابس ومظاهر اللحية والنقاب وبدع السنن لسرعة الانتساب لخاصة الله وحماة الدين ولا فرق بينهم جميعا في سلوكيات النفوس فهؤلاء نتج عنهم من يقتلون الناس ويفسدون في الأرض لحساب الاتجار بالدين وهؤلاء نتج عنهم من يقتلون أنفسهم وغيرهم بالانحراف وتدمير النفوس حاضرها ومستقبلها لحساب أعداء هذا الوطن ، وما بين هذا وذاك تجد العامة غارقين في البحث عن سبل العيش ولا وقت لديهم للفكر أو مراجعة المفاهيم ، بل يسقط العامة في مستنقعات مستجدات الذوق العام المتدني كوسيلة لفرض وإثبات الوجود النفسي بأخلاقيات غريبة وهدامة لإيجابيات المواطن المصري الموروثة وهو ما يدفعنا لننتقل من الحدود إلى الأخلاق كمفهوم إنساني راقي كما نترحم عليها وهو ما سوف نتناوله لاحقا ..
















