محمد نجم
عدنا.. وكأن شيئا لم يكن!
بقلم : محمد نجم
من الملاحظ أن هناك من يرغب فى جرجرة البلاد إلى الخلف، وإن لم يتحقق ذلك فلا مانع من بقاء الحال على ما هو عليه..
وقد يكون الراغبون فى ذلك من الداخل للحفاظ على أوضاع قائمة أو مكاسب معينة، وقد يكونون أيضا من الخارج.. فلسنا نعيش فى عالم من الملائكة، ومن لا يصدق تلك الاحتمالات المنطقية.. فعليه أن ينظر حوله ليرى كيف آلت الأمور فى بعض الدول الشقيقة بسبب الفوضى غير الخلاقة التى اخترعها الغرب تحت عنوان براق. سمى بـ «ثورات الربيع العربى».
أقول ذلك بسبب ما حدث الأسبوع الماضى على شاشات التليفزيون.. والذى يمثل عودة للخلف.. أى قبل ثورتى يناير ويونيو.. وكأن شيئاً لم يكن.
فمنذ سنوات عدة أهدانى أحد الزملاء «سى دى» وطلب منى أن أشاهدها بمفردى، وهو ما حدث بالفعل لاكتشف وقتها أنها عبارة عن تسجيل مصور بغرفة نوم للقاء حميم بين رجل أعمال وزوجته الفنانة وأصابنى شىء من الغثيان لشكى أن الزوج (العرفى) هو الذى صور ذلك وسربه، ولكننى اكتشفت فيما بعد أننى كنت آخر من رأى هذا التسجيل وأن الموضوع متداول منذ عدة أشهر، وأن ما حدث كان بمثابة «قرصة ودن» لهذا الثرى الذى رفض التبرع لإحدى الجهات المدعومة من أصحاب النفوذ فى البلد، وحدث أن اتهم هذا الثرى فى عدة قضايا أخرى وحبس.. ثم خرج وعاد لممارسة حياته السابقة ونسى الجميع الموضوع وكأن شيئا لم يكن..
ولكن ظل الموضوع معلقا فى ذهنى.. فما حدث كان نوعا من العقاب سمى «التجريس» أى فضح كل من يخالف القانون بين العامة.. وكانت هذه العقوبة تتم فى فترة الحاكم بأمر الله أحد حكام الدولة الفاطمية فى مصر.. وامتدت من بعده إلى فترة حكم المماليك، وكانت تتم أساسا على السارق أو السكران الذى يهدد سلامة المواطنين فى الشارع، وكذلك بعض التجار الذين أعلنوا إفلاسهم، حيث كان يوضع الشخص المراد تجريسه على ظهر حمار، ولكن وجهه للخلف، بعد أن يحلقوا له شعره وينزعوا عنه بعض ملابسه، وكان هناك من يسحب الحمار وعلى ظهره هذا المسكين فى جولة بحوارى المنطقة وخلفه مجموعة من الصبية يزفونه معلنين جريمته.
وبعد تولى محمد على حكم مصر ومن بعده أولاده وأحفاده تغيرت الأوضاع وصدرت قوانين، وأنشأت محاكم وأبطلت تلك العقوبة غير الآدمية باستثناء بعض القرى البعيدة عن العين فى محافظات بحرى وقبلى، حيث استمر بعض «العمد» فى تنفيذها على الخارجين على القانون من الغلابة، أو قيام بعض العائلات الكبيرة ينفيذها على «أشخاص» من عائلات ضعيفة كنوع من فرض السيطرة واستعراض القوة!
ثم جرت فى النهر مياه كثيرة.. إلى أن وصلنا إلى فترة سيطرة الحزب الوطنى الديمقراطى على مقاليد الحكم فى البلاد وحدث صراع خفى بين أجنحة مراكز القوى فيه، وفوجئنا بحملة اعتقالات واتهامات بالفساد لقادة القطاع الزراعى، وكان الرد باتهامات أشد لبعض القيادات الإعلامية والسنيمائية، ونشرت الصحف وقتها عن فضائح قمصان النوم الحريمى بمكاتب العمل.. ولفائف المخدرات فى أدراج المكاتب.. فضلا عن اتهامات «بالقوادة» وتسهيل لقاءات بعض الفنانات بأثرياء عرب!
أى أننا عدنا بعد كل تلك السنوات الطويلة لما كنا عليه فى عصر المماليك، وكانت النتيجة أن مات بعض المتهمين فى تلك القضايا «كمدا» فى السجن مما حدث لهم من تجريس طال عائلتهم.
ثم قامت ثورة يناير وتخلصت البلاد من مراكز القوى الجديدة.. لنكتشف بعد المحاكمات القضائية أنهم لم يكونوا فاسدين فقط، وإنما كانوا يفسدون من حولهم من التابعين والمريدين.. وكثيرا ما ضحوا بهؤلاء ليظلوا هم على ظهر السفينة، واهمين أنهم نجوا من الغرق، لكن الله يمهل ولا يهمل.. ودائما ما تدور الدوائر على الباغى.. ليشرب من ذات الكأس.
والغريب أن أحدا لا يتعظ.. مما حدث لغيره أو لنفسه من قبل، فقد خرج بعض من هؤلاء من السجن بعد قضاء العقوبة.. وعادوا لممارسة حياتهم السابقة وكأن شيئا لم يكن، ومنهم من ظهر على شاشات التليفزيون بكل بجاحة مدعيا الاستقامة والشرف، ومنهم من احتل مساحات ببعض الصحف الخاصة.. كاتبا.. بل ومحررا يجرى الأحاديث والحوارات الصحفية مع وزراء ومسئولين.
ومرة أخرى.. يقع البعض فى ذات الخطأ ويكون سببا فى القبض على أحد أعضاء الوزارة فى الشارع وأمام الناس كافة.. وتتحقق عقوبة «التجريس» بدون قصد هذه المرة.. فقد كانت «الرسالة» أن لا أحد فوق القانون وأيا كان منصبه!
وقد تزامن مع ذلك.. وخاصة بعد الثورة الثانية فى يونيو 2013، أن منح أحد الأشخاص امتيازا حصريا بإذاعة تسجيلات مسربة لمن احتلوا الكادر الإعلامى فى ثورة يناير 2011.
كل ذلك.. وكأن المجتمع والناس يتسلون بما يرونه أو يسمعونه، وفى الحقيقة بعض ما سُرب كان مطلوبا إعلانه حتى يعلم الجميع ماذا حدث وكيف حدث ومن كان وراء كل ذلك؟.. ولكن المشكلة أن كثيرا ما ينقلب السحر على الساحر ويشرب البعض من ذات الكأس المرة الذى سقاه لغيره من قبل.
وقد لا ينطبق ما تقدم على ما حدث مؤخرا مع المخرج السينمائى المعروف الذى كان أحد علامات ثورتى يناير ويونيو، ولكن هكذا تسير الأمور.. يوم لك ويوم عليك.. وقديما قالوا: «من يرغب فى الدح لا يقول.. أح».. أى من يرغب فى الشربة لا يشكو من السخونة، ولكن القضية الأساسية هنا.. ما معنى كل ذلك؟.. وأى مصير يسحبنا إليه بعض الإعلاميين عن قصد أو عن جهل!.. وأين المصلحة العامة فى كل ذلك؟..
ما نراه وما نتابعه.. أن رئيس الدولة يعمل بكل جدية للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة المتمثلة فى أزمتها الاقتصادية.. فضلا عن مواجهة الإرهاب الأسود الذى يغتال شبابنا ليلا ونهارا.
فهناك جهد متواصل لتأسيس مشروعات استثمارية ومدن جديدة ومجتمعات عمرانية، وبدلا من أن يقوم الإعلام بتعبئة المجتمع لسرعة إنجاز ما يجرى على الأرض، بدلا من ذلك نجدهم فى «شرشحة» متبادلة حول قضايا مكانها جهات التحقيق المختصة حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود!
إن ما يحدث يدفعنى لبعض الهزل.. حيث يحكى أنه قيل لزعيم عربى راحل: يتردد أن لديك علاقات نسائية متعددة؟.. فكان رده: وماذا تفعل الرجال.. غير أنها نتعرف على «النسوان»!بينما عقب زعيم آخر.. ومن قال للغزالة أن تدخل إلى عرين الأسد؟!
فى الحقيقة.. الأمر محزن وسخيف.. فالبلد فى حالة حرب مع الإرهاب.. والأوضاع الاقتصادية ليست على ما يرام.. والناس مشغولة بما هو أهم.. فلا تشغلوهم بغثائكم.. حتى لا نعود إلى الماضى وكأن شيئا لم يكن..
حما الله مصر.. ووقاها من كل فتنة.
















