عاجل
الإثنين 7 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الحرف الثامن.. أرتميس
بقلم
رشا بكر

الحرف الثامن.. أرتميس

بقلم : رشا بكر

 



عزيزي.. ربما أثناء قراءتك لهذه الرسالة التي تكاد أن تلتهمها شغفًا، تشعر بنيران دمائك الحامية الملتهبة، وأنفاسك التي صارت كالدخان، كخوار ثورٍ نحاسيٍّ تحته لظى، نُزع عن الضحية التي ألقيت بداخله لسانها، فمهما صرخت لن يعلو صوتُ صراخك عن صوتِ الخوار..

قد تكون حروفي من شدة اشتياقك لهذه الرسالة بمثابة سوط يتلذذ به الضحية والجلاد، وينتظران أن يلتقيا بفارغ الصبر.

الآن أنقر على هذه اللوحة، وما نقراتي إلا طعنات متواليات بخنجر مسلول، تفتق بقلبك حروفًا تسرد بمشرط ماهر، فأنا امرأة لا ترضى بترقيع بكارة الحقيقة، ولا ترضيني الحلول الوسطى، قد تتوقَّف سعادتنا على صغائر الأمور، وبالمناسبة.. أشكرك على الورود التي أرسلتها اليوم، لكن الأشياء الجميلة لا تأتي غالبًا في وقتها المناسب، ولا تحلو الرحلة إلا في النهاية، ولا يحلو الوئام إلا بعد الفراق، قد يكون خوفًا أو هربًا من التعلق، وعجز عن إذلال العقبات، تحلو الأشياء في خواتيمها، لذلك يسألون المحكوم عليه بالإعدام "ماذا تريد قبل تنفيذ الحكم؟"، وهو يطلب بدوره أكثر الأشياء التي تعلَّق بها أو اشتهاها ولم يتمكَّن من الحصول عليها، وقد يطلب رؤية أكثر من أحبهم.

يميل الإنسان إلى الهروب من الحقيقة عادة، ولكنه إذا حظي بفنون الحيلة والدهاء فقد يمتلك حينها ظل شجاعةٍ زائفةٍ تجعله يتلوَّن بلا ضمير، تمكِّنه من الإمساك بها، وقتلها، ربما مثَّل بجثَّتها، أشلاء قطَّعها ودفنها في جبٍّ سحيق، فكله مما جنت أيدينا وما اقترفنا.

إنني لا أريد أن أكون أول من يواجه الناس بما يخافون، بل ما يريدون فعله، ولكنهم يجبنون عن الحقيقة، وما الحياة إلا حيوانًا مفترسًا ينهش في داخلنا، ويفتِّش الأسرار، يعرِّي سوءاتنا من ورقات التوت، وتفضحنا بشكل صريح.

أن تتقبَّل الآخر أمر يختلف تماما عن أن تقبله، فشتَّان بين الفعل والافتعال، ولو أن الفعل أيضًا من الممكن تصنعه، أما رد الفعل فهو اختبار قاطع لا شك فيه، اختبار صبر آدم وفتنة الشجرة المحرمة.

كنت وقتئذ تتقبلني كفتاة جامحة طموحة، تتقبل كوني مدخِّنة، تتقبل أكتافي العارية، سيقاني اللامعة حركاتي المثيرة العفوية المتأوِّدة، والتي صارت أكتر إثارة بعد ذلك، كنت أنا الحياة بكل ما تنبض من ألوان وزهور وحرية وتطلُّع وثقافة واسعة وخفة ظل وإباء.

حينما أخبرك بأن ثمة رجل آخر لم يكن ادعاء لقياس قدرتك على التحمل، أو بغرض إثارة غيرتك.. لا.. فأنا لا أبالي الآن بتلك الأمور التافهة مثل الحب، الغيرة، اللوعة، الوعد، فلقد انتهى كل شيء، ألم تقل أن "لا وعود"؟ ألا تذكر أنك أخبرتني يوما أنه "قد انتهى كل شيء"؟ لكنك ورغم كل ما حدث أراك الآن في نبرة صوتك عبر الهاتف، تقف.. يتشظَّى الضوء حول جسدك المهزوم! بكل أسف لقد أسأت التقدير يا عزيزي.. أخطأت حساباتك.. وكل تجاربك السابقة لم تكن لتؤهِّلك لتحمُّل هذه اللحظة القاسية!

نعم أشعر بهزيمتك قبضة قاهرة تعتصر قلبك أو تكاد، مثبَّتًا متسمِّرًا، نبضك يئنُّ بالأوجاع والجرح والألم، الضوء يخترق جسدك الخاسر، متخللًا ظلامك المحمَّل بالقهر والغضب.

الحب وحده لا يستطيع مهما بلغت حرارته أن يخبز رغيفًا كما قال كنفاني.. ألم تردد لي هذا يوما؟ أين ذهبت طموحاتك الشاطحة؟ ربما تطايرت شظاياها وأخذتها الرياح فرمت بها أشتاتًا في البعيد.. وأدركتَ أنك بائسا ولست مميزًا كما خدعك السابقون.

أتعلم أن بداخل كل امرأة وحشًا صغيرًا جميلًا يستيقظ عند الغدر بها.. يتغذَّى على كل الآلام، ويكبر ويستفحل، ويصير ماردًا يلتهم كل شيء.. نعم.. كل شيء.. فتصير الهدايا والعطايا أفضل من جمال كلماتك المنمقة المؤقتة المغزولة بكل إتقان.. غرضها اصطياد غزالة شاردة، يتبعها فرحة الاغتنام، فجفاء، ومعاناة، فرضوخ، ثم غدر وأسى.

عندما تقترب النهاية ويتحتَّم ما سبق أن تحتَّم.. إذًا هو الفراق.

يكون الماس يا عزيزي أجمل من الحكمة ذاتها، وكل التوسلات والندم، إنه تنويم يُسهِّل الإغواء.. ذلك الحجر ذو الفضيلة العظمى الذي يسحق أنف أكثر القصائد العاطفية عذوبة، ويفتح مغاليق الأبواب الموصدة، كأنه السحر يعمي عيون المبصرين، فينشر الضباب أمام الأعين، ويسكت الكلاب.

تحسَّست ماسة خاتم يدي الثمين بمجرد أن فتحت عيني، فوجدتني داخل استقبال مستشفى غارقة في القذارة والفوضى.. عشرات الوجوه المتجهمة، حفرت السنون في ملامحها أخاديد، جلدهم سميك غامق كجلد البهائم، يتنفس الصهد من تحت الجلد السميك، كانت تفوح رائحة الصدأ من جلابيبهم وعمائمهم ومن عيونهم التي تفح نظرات غير متحضرة، ولم تكن الأسرَّة كافية للمرضى، كنت مستلقية على سرير وتحتي ملاءة متسخة ملطَّخة بالدماء والصديد، علمت بعدها أن من أحضروني ربما عجزت أيديهم عن "غمز الممرضة بعشريناية"؛ لكي تقوم بتغييرها بملاءة نظيفة.. تفوح من المكان رائحة كريهة.. أطفال يلهون بنصفهم الأسفل العاري تماما، واعتلا المخاط النازل من أنوفهم أفواههم، وكانوا يأكلونه بألسنتهم!

أما القطط فتركض في كل مكان.. أكاد أقسم بأغلظ الأيمان أن لو فلورنس ناينتجل على قيد الحياة، لكررت عبارتها المشهورة: "إنه حقًّا أقرب شيء للجحيم على الأرض".. همست إحدى النسوة لأخرى: "بيقولوا المستشفى دي فيها فيروس".

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز