عاجل
الإثنين 4 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
حجر بني وطائر أسود

حجر بني وطائر أسود

بقلم : أحمد صلاح

لا أجيد السباحة، قدماي تلمسان الأرض،مياة البحر ضحلة تغطي صدري ولا تصل لكتفاي، الماء يدخل فمي مالحا، وقدماي تلمس حجرا أملسا شديد البرودة وليس رملا، الجو خانق، والحرارة شديدة تلهب رأسي، برغم الليل والقمر الذي يبزغ أمامي كجبل خرج من الماء مستدير القمة، وجدت بجواري ثلاث أشخاص، كانوا عراة مثلي،ولا يجيدون السباحة مثلي، يسيرون بخوف من كائنات هلامية مجهولة، وطائر يقف هناك، بعد القمر، أو قبله، أو أمامه، لا أري جيدا، ولكنهم يحثون الخطي مثلي، نحو تلك المرأة، عارية هناك، حلت شعرها ونظرت للقمر، قبله أو بعده لا ندري جميعا، ولكنها هناك، خمرية كتصويرة فرعونية، صدرها نافر الحلمات، تجلس غير مبالية بعرقنا والملح والشمس التي تأكلنا، نقترب مفعمين بالشهوة، ونقترب ، ونقترب فلا نجد غير حجر بني وقف عليه طائر أسود.



أفقت شاهقا، كان النهار قد بزغ وضوء الشمس يحرق رأسي متسللا من شباك الغرفة، جسدي يتصبب عرقا، وساقي تدلت من الفراش كطفل أبله نائم لتلمس أرضية الغرفة، لمبة الحمام منعكسة علي مرآه النيش كالقمر، ولا أجد المرأة العارية ولا الطائر ولا الرجال الثلاث .

أقوم والفراش ملئ بالعرق، الساعة تشير للتاسعة، تأخرت علي العمل، لمست قدمي أرضية الغرفة بالباردة فكان الاحساس في الحلم، والشمس التي لمست رأسي من النافذة فكانت في الحلم، بحثت بعيني عن المرأة فلم أجدها، حتي الطائر إختفي ، أتلمس آله الكمان، ألمس أواترها باصابعي، أتذكر معاناتي علي المسرح وأن أعزف.

في المساء كانت وسط اللوحات، ابتسامتها التي لا تفارق شفتيها، عيونها السوداء بدون كحل، وجهها لا يحتاج لمساحيق، ربطت شعرها بحجاب يخفي رأسها ولا يخفي رقبتها، أسدلت علي جسدها البض فستانا أسودا، استسلمت لكلمات الإعجاب بلوحاتها، اقتربت منها " كل معارضك حلوة كدة" ، قالت" اتأخرت لية.. كان نفسي تكون جنبي لحظة الإفتتاح ..دا أول معرض شخصي لي..قلبي كان بيرجف من الخوف" ، ابتسمت قلت بشقاوة" مش ناوية ترسميني" ، نظرت في عيني " بعينك".

وقفت أمام لوحاتها، إحداها كانت تصور إمراءة شابة في قميص خفيف تجلس بظهرها والبحر أمامها وتشكيلات من الضوء ، اللوحة الأخري لقارب يدخل ميناء والصخور تشكل رجلا وإمراءة، اللوحة الثالثة جعلتني أتسمر، نفس الحلم، أربعة رجال في الماء وأمامهم القمر وإمراءة عارية عن بعد عندما قربت نظري أكثر كانت مجرد حجر بني وطائر أسود.

اقتربت منها مرة أخري" رسمتيها أمتي" ، نظرت متعجبة" من شهر .. لية" ، قلت وحلقي يجف" حلمتها إمبارح" ، قالت وهي تمس كتفي برفق" نشرب قهوة بعد المعرض ونتكلم".

في الكافيه الملحق بالمعرض جلست وحدي، كنت أضحك، أرشف من القهوة والسيجارة في يدي، وأضحك، دخلت علي مبتسمة،" هي وصلت لكدة بتضحك لوحدك" ، " لوحتك حلمت بيها النهاردة الصبح .. لقيتها في المعرض بالليل" ، كانت قهوتها أمامها رشفت ببطء تتذوق، تحدثت عن التوارد في الأفكار وأنني أحيانا أحلم باشياء ثم تحدث ، مالت علي بشقاوتها " طلع حجر في الآخر" ضحكت، قلت " ارسميني بقي" .

في مرسمها كانت تقف ممسكة بفرشاه وحيدة، منضدة مليئة بعلب الألوان، سطحها وكأنه قوس قزح غير متناسق، لوحات ناقصة في الأركان تنتظر، مثل ألحاني المبتورة أحيانا، ولوحة بيضاء شاغرة، أمامها باليتة شبه مستديرة مثقوبة من المنتصف ومقعد طويل، إرتدت جينسا وبادي أبيض كشف عن بعض ذراعها، ولفت شعرها بوشاح فلسطيني، موسيقي حالمة تنبعث من جهاز خفي، وضعت بضع نباتات ظل في الأركان، تشابكت أفرعها كغابة صغيرة، قالت ضاحكة" ماصدقت أني أرسمك.. إية المواعيد الإنجليزي دي"، قلت بحركة مسرحية" الشرف لي يا هانم"، كانت قد أعطتني موعدا بعد لقاء المعرض بأيام في الثامنة مساء، طلبت أن أجلس أمامها، أتت بفنجاني القهوة وأشعلت أنا سيجارة، كانت ترسم وتتكلم، تسألني وأجيب، الجدية علي ملامحها، ترفع يدها بالفرشاة وكأنها مايسترو أمام فرقة وتنتظر أن أعزف لها، أتلهف لأري ما رسمت، أحاول القيام، تقول بشقاوة" خليك مكانك.. ما تقربليش"، تسأل عن تفاصيل حياتي، مشكلاتي التي مررت بها وكيف حللتها، علاقاتي بالنساء، اسئلة كثيرة متشابكة، كانت كل فترة تفتح الشباك، تملأ صدرها من الهواء ورائحة السماء ثم تعود مرة أخري للوحة، تأتي بحركات مجنونة لا أنكرها ، أحيانا تقترب من أحدي الأشجار وتحدثها تقبل الأوراق ثم تعود للرسم، تتذكر سؤالا ، تلقيه باهتمام، أجيب فتعاود الرسم بحماسة.

أكواب القهوة ملأت الغرفة، أعقاب سجائري فاضت عن حاجة المطفأة، النهار يبزغ ويضئ نصف وجهي، تزداد يدها في الرسم، تقول" ما تتحركش .. خليك كدة"، الإجهاد علي ملامحها، ورغبة النوم تداهمني بعمق، يدها تعمل بقوة وسرعة، في النهاية ألقت بالفرشاه.

رمت نفسها علي مقعد وأغمضت عينيها، ساد الصمت دقائق، صدرها يعلو ويهبط كالتي خرجت من مارثون، بدأت أنفاسها تنتظم، قمت بهدوء، اقتربت منها فوجدتها مازالت مستيقظة، ملابسها تلطخت بالألوان، أمسكت بيدها وقبلت باطن الكف، سحبت يدها لتربت علي شعري ثم وجهي بنعومة، بدأت ألف حول اللوحة، ووقفت أمامها.

كانت تسألني لتعرف تفاصيل حياتي، رسمتني، شائها، صخرة وحيدة وسط محيط، نبتت فوقي شجرة، وأضاء النهار نصفي، وغاص بقيتي في شعب مرجانية ملونة، وفي الخلفية العشرات من الخطوط الحمراء المتشابكة، تصنع شباك ودوائر ومربعات، وفي الركن كانت إمراءة عارية تشبهها كثيرا، قربت منها عيني لأجدها حجر بني عليه طائر أسود.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز