عاجل
الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
محمد صديق المنشاوي

محمد صديق المنشاوي

بقلم : د. أحمد الديب

أرسل الله الرسل تترا ، مبشرين ومنذين ، وأنزل معهم الكتاب ليبين للناس ما اختلفوا فيه ، و يؤيدهم بالمعجزات الدالة علي تميزهم عن غيرهم من سائر البشر لإتصالهم بالخالق الأعلي . وقضي الله أن تكون رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة والتي لا يحدها مكان ولا يبليها زمان ، فجعل المعجزة كتاب ، والكتاب معجزة ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه . قرآن لا يقتصر إعجازه علي تشريع وحكمة ، ولايقتصرإبداعه علي إِحكام وأَحكام ، بل يضفي عليه أسلوبه حلاوة ، وتضفي عليه فصاحته طلاوة ، فلا هو بكلام الإنس المنثور ولا بكلام الجن غريب الالفاظ غامض المعني .



إنه القرآن الكريم الذي أستُهلت آياته بأمر القراءة "اقرأ" ، وذاعت أحكامه بأمر التلاوة "اتل" ، أقتنته الصدور وصدعت بآياته الألسنة ، فكان من البديهي أن يسخر الله لهذه المعجزة رجالاً استثنائيين ، يسخرهم لحمله في الصدور كما اُنزل علي نبيه ، ويصدحون به علي مسامع الناس وكأن الرسالة المعجزة تحتاج إلي حامل رسائل معجز ! ، بحناجر من ذهب وألسنة ملؤها العذوبة. وهكذا كان قراء العالم الإسلامي الأماجد ، وهكذا كان اعذبهم واروعهم ودرة تاجهم ، المعجزة ، الشيخ محمد صديق المنشاوي.

 في مدينة المنشاة ، محافظة سوهاج ، مَن الله علي المسلمين بأسرة ذات قدركبير ومكانة ورفعة بالقرآن  ، وهكذا يرفع الله أقواماً بالقرآن ويخفض بما هو دونه آخرين. الشيخ صديق السيد تايب المنشاوي "الأب"، تطلب منه الإذاعة أن يسجل لها  فيرفض طلبها والاعتماد بها لزهده وورعه وعدم اكتراثه بالجاه والشهرة والصيت ، فإذا بالشهرة تطرق بابه دونما سعي إليها ، فيمن الله عليه بأجيال من ذريته يحفظون القرآن في صدورهم ، وتترنم به ألسنتهم ليصبحوا ملء السمع والبصر، ذرية بعضها من بعض .

 ها هي الإذاعة المصرية تنتقل إلي المنشاه بكامل معداتها لتسجل القرآن الكريم بصوت المنشاوي الأب والذي ورثه ابنه الفذ الشيخ محمد ، نحيل الجسد ، نقي القلب ، رباني الروح ، ذهبي الحنجرة ، عذب اللسان ، فيقضي الله أن تلهج باسمه الألسن في مشارق الأرض ومغاربها ، ويرتفع ذكره في أي بقعة من بقاع الارض تؤمن بأن القرآن كلام الله المنزل علي نبيه صلي الله عليه وسلم بواسطة الوحي . رفع الله ذكر آل المنشاوي حملة القرآن والأمناء عليه وأحد وسائل حفظه وإجادة تلاوته الي أن يرث الله الأرض ومن عليها .

وُلد الشيخ "محمد صديق المنشاوي" في عام 1919.وأتم  حفظ القرآن الكريم قبل أن  يكمل عامه التاسع وظل معلمه محمد النمكي يرعى نبوغه المتوقد وإقباله المبكر على حفظ القرآن فدفع به إلى أساتذة آخرين . فدرس أحكام القرآن على يد أشهرهم وهوالشيخ "محمد أبو العلا" .وفي هذا المقام ، لسنا بصدد التوثيق التاريخي للشيخ والذي لم ينل ما يستحقة من دراسات توثق لتاريخه وحسن تلاوته والمقامات التي كان يجيدها وطبقات صوته . ولعلها الحيرة التي تنتابك حين لا تجد من الدراسات ما يُلقي الضوء علي هذه الموهبة والتي أجدها معجزة ربانية لا ريب.

المدرسة المنشاوية ، مدرسة فريدة في التلاوة ، تميز رائدها الشيخ "محمد صديق المنشاوي" وكما رُوي عنه بالورع والتقوي وحسن الخلق ، هكذا كان يعمل بالقرآن ويقرأه . ما أكثر من تعلم القرآن وقواعد تجويده وتلاه بصوت حسن جميل ، لكني لم استمع إلي القرآن كما استمع إليه بصوت الشيخ المنشاوي .

في أثناء رحلتك الزمنية مع الشيخ ، توقن أن هناك ثمة سر، وهيهات هيهات أن تعثر عليه ، فلا يشغلنك السر عن أثره . هو سر القرآن عينه ، وسر الروح الأمين الذي تنزل به ، وسر من اصطفي الله من بشر ليتنزل علي قلوبهم ، فتُجَوِد به الألسن ، وسر من أنصت واستمع من جن وإنس . أما الأثر وما أدراك ما الأثر هو أثر كلام الله في مخلوق الله.

 ما هذا الإحساس المرهف في تلاوة كل آية وفي لفظ كل كلمة . كيف يأخذك الشيخ من مكان إلي مكان ومن حالة شعورية إلي أخري بهذه السلاسة . كيف تستبشر إذا ذكر الجنة ونعيمها ، وكيف تفزع إذا ذكر العذاب وصنوفه . وكيف توجل إذا ذُكر الله أو ذكرت اسمائه . كيف يشكر قلبك إذا تلي آيات الإنعام والبسط وكيف يقشعر الجسد إذا تُليت آيات النقمة والقبض . ما هذا الحزن الذي ينتابك إذا حزن الشيخ ، وما هذه السعادة التي تملك عليك وجدانك إذا فرح الشيخ في خشوع . لماذا تشعر في كلمة مرة أن هذا الصوت لا تنتقل موجاته إليك من مكان من أمكنة الدنيا ، بل هي مشارف أبعاد اخري أسمي وأرقي وأعظم.

 تستمع إلي المنشاوي فتعيد إلإستماع إلي ذات التلاوة مرات ومرات ، فإذا بك كأنك تستمع لأول مرة في كل تارة . يَمنُ الله عليك مع المنشاوي بهذه الخصوصية ، وهي أن لا يشغلك المقام عن المعني . فما النهاوند الذي أبدع فيه المنشاوي لا أبتدع ، إلا وسيلة عذبة رقيقة تحمل المعني إليك ، وما الصبا إلا طعم الحزن الذي ينتقل من قلب المنشاوي فحنجرته فلسانه إلي قلبك . فإذا تلي الشيخ  " وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً " ،.... تراه يفرق بين " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ " ،  و" وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ " ،  و" وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ " ...تفريقاً محدِداً لمكان كل فريق ومكانته فتستمع إليه يمنح " السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ " من الإحتفاء العظيم قدر ما يمنح " َأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ " من الأسف العظيم .

رحل الشيخ المنشاوي عن عالمنا ولم يرحل ، وافته المنية في عام 1969 . وهل يرحل من هذا اسمه وهذه تلاواته . يبقي هذا التراث من التسجيلات المرتلة والمجوده والتي سُجلت له في بقاع شتي من الارض والتي لن نستطيع أن نستوفيها ولو كان بعضنا لبعض ظهيراً ، شاهداً علي أن الله وعد  بحفظ كتابه فحفظه ، مسخراً له من البشر من إذا تلاه علمت أنه لا هو بكلام إنس ولا بكلام جن ، كلام الله. 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز