

محمد نجم
كذب «المحللون» ولو صدقوا!
بقلم : محمد نجم
فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى تتالت كتابات المحللين الاستراتيجيين مؤكدين على أن المستقبل للكيانات الكبرى، مطالبين الكيانات الصغرى من الدول بضرورة الاندماج فى كيانات سياسية واقتصادية وإلا سيكون مصيرهم إلى الزوال.
وبالطبع كنا نصدقهم.. فهم الخبراء المتخصصون فى الشئون الدولية والإقليمية، خاصة مع تصادف نشأة الاتحاد الأوروبى وتجمع دول الأسبان، بل نشأت أيضا ثلاثة تجمعات عربية فى الخليج والمغرب العربى ومصر والعراق ودول أخرى.
ولم تمض سوى شهور قليلة وفوجئنا بتفكك الاتحاد السوفيتى السابق إلى عدة دول، وكذلك تشيكوسلوفاكيا إلى دول التشيك والصرب والبوسنة والهرسك، ولم تتأخر التجمعات العربية عن ذلك أيضا.. بل فوجئنا بغزو العراق لدولة الكويت.
.. ومن بعدها «حرمت» أصدق هؤلاء الخبراء أو أسير خلف توقعاتهم الخائبة!
وما أشبه الليلة.. بالبارحة، فقد فاز المليونير ترامب الذى لم يكن له علاقة بالسياسة من قبل على المخضرمة سياسيا هيلارى وزيرة الخارجية السابقة، وأصبح ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، هذا على الرغم مما صدعنا به الاستراتيجيون العرب من تحليلات على شاشات التليفزيون وأثير الإذاعة وصفحات الصحف بأن هيلارى هى الساكن القادم للبيت الأبيض، وأن ما نتابعه من أحداث فى الانتخابات الأمريكية ما هو إلا «شو» أمريكانى، فالمسألة محسومة.. ولا يمكن للأمريكان أن يسمحوا لأحد من خارج مؤسسة الحكم بالدخول إلى البيت الأبيض.
والطريف فى الموضوع أن المناقشات تحولت إلى كيف سيكون وضع زوجها رئيس أمريكا الأسبق؟.. وكيف سينادونه «الرئيس السابق» أم «السيد الأول»؟!
والأكثر طرافة.. أن يحرض بعض المهاويس من الفلكيين بالظهور على شاشات التليفزيون ليؤكدوا أنهم كانوا الأسبق.. فى توقعاتهم بفوز السيدة كلينتون!
ولست أفهم.. هل سار المحللون العرب خلف وسائل الإعلام الأمريكية ودوائر صنع القرار السياسى فيها؟.. أم أنهم عجزوا عن القراءة الفاحصة والعميقة لما شاب المجتمع الأمريكى من تغيرات؟..
فمما لاشك فيه أن السيدة كلينتون وزيرة الخارجية السابقة وزوجها الرئيس الأسبق نجحا فى عقد تحالفات قوية مع وسائل الإعلام الأمريكية ومراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار، ومن ثم كان الانحياز الواضح ومحاولة إقناع الشعب الأمريكى بانتخابها معززين دعوتهم باستطلاعات رأى متتالية تشير إلى تفوق السيدة كلينتون على منافسها.
ومن جهة أخرى.. فدوائر صنع القرار الأمريكى عملت من قبل مع السيدة كلينتون وزوجها ويعلمون اتجاهاتها وما يمكن أن تفعله.. وخاصة «البنتاجون» والمخابرات الأمريكية (CIA) ومراكز الأبحاث المؤثرة وقيادات الحزبين الديمقراطى والجمهورى. وكان «منطقهم» فى ذلك.. (اللى تعرفه أحسن من اللى متعرفوش)! خاصة أن المنافس ترامب لم يتول منصبا قياديا من قبل سواء كان بالتعيين أو الانتخاب.. بل إن سلوكياته وتعاملاته تدفع إلى عدم الاطمئنان، كما أن حياته الخاصة لم تكن مستقرة، حيث تزوج ثلاث مرات وأنجب نصف دستة أولاد!
ولكن الشعب الأمريكى.. وخاصة الأغلبية البعيدة عن العاصمة واشنطن وما يحدث فيها كان له رأى آخر، فقد مل وسأم من تلك «الوجوه» المتكررة وكأنها مقررة عليه.. خاصة أنه جرب من قبل مسألة الوراثة فى بوش الابن!
ثم إنه مازال يعتقد أن «أمريكا بلد الأحلام الممكنة» وأنه يرغب بالعيش فى سلام ورغد، بينما يرى «النخبة» محتكرى السياسة تهدر ثروات البلاد وشيعت أبناءه إلى الموت فى حروب بعيدة لم تكن هناك مبررات قوية للدخول فيها، وعلى الأخص حرب غزو العراق والتى تمت بخدع مصنوعة تحت ذريعة أنه يمتلك سلاحا نوويا!
وأيضا.. لاحظ أغلبية الشعب الأمريكى من البسطاء وغير المتعلمين أن «نخبته» السياسية تنعم بالثراء ومزايا المناصب الكبرى.. بينما هم يعانون من عبء الضرائب.. وضعف الخدمات وانخفاض المرتبات إن وجدت!
ثم إن هناك حكمة إلهية وكونية بأن «الإنسان يحصد ما زرعت يداه» والنخبة الأمريكية صدّرت فكرة «التغيير» إلى أماكن كثيرة فى أنحاء العالم وخاصة ما سمى بالربيع العربى، فلماذا لا يطالهم التغيير كما طال غيرهم؟.. ولماذا لا يحصدوا ما زرعوه فى بلاد أخرى؟!
لقد أتت الرياح بما لا تشتهى سفن النخبة الأمريكية.. وهذه سنة الحياة «التغيير» ومن ثم كانت الدهشة من بعض المظاهرات فى الشوارع الأمريكية اعتراضا على نتائج الديمقراطية الأمريكية التى يطالبون دول العالم بتطبيقها.
على أية حال.. لقد أصبح دونالد ترامب رئيسا لأمريكا.. وهنا يجب الإشارة إلى ذكاء وحكمة إحدى المؤسسات المصرية عندما أصرت على ضرورة أن يلتقى الرئيس السيسى بالمرشح ترامب إذا كان سيلتقى بالمرشحة كلينتون، سياسيا وبروتوكوليا لا يجوز أن يلتقى رئيس مصر بمرشح للرئاسة الأمريكية دون الآخر، ولكن الأهم أن تلك المؤسسة المصرية قرأت الواقع الأمريكى قراءة صحيحة وصدقت توقعاتها.
ولكن يبقى السؤال السياسى: ماذا عن العلاقات المصرية الأمريكية؟.. وأيضا كيف سيكون التعاطى الأمريكى مع مشاكل المنطقة.. ومنها الإرهاب والحروب الأهلية فى بعض دولها؟.
أعتقد وطبقا لمبدأ «المصالح تتصالح» سوف تزداد العلاقات المصرية الأمريكية عمقا وسوف يسودها التفاهم والتعاون المشترك وبدون شروط مسبقة أو ابتزاز مرفوض، وذلك للأسباب الموضوعية المعروفة وآخر شخصى.
أما الأسباب الموضوعية فهى معروفة للجميع وأهمها «وضع» مصر وقيادة مصر لدول المنطقة قديما ومستقبلا إن شاء الله.. كما أنها «مفتاح» لحل العديد من القضايا العالقة بالمنطقة.. وعلى رأسها بالطبع القضية الفلسطينية ثم الحرب الأهلية فى سوريا وفى اليمن.. وأيضا الأوضاع فى ليبيا، خاصة أن مصر لا تعادى أحدا.. وليس لديها مشكلة مع القريب أو الغريب.. ولكنها ترفض أن يتدخل أحد فى شئونها أو يملى عليها شروطا معينة، كما أنها ترغب فى استقرار الأوضاع بالمنطقة وانهاء النزاعات المسلحة بها بالطرق السليمة.. فالحروب لم ولن تحسم الخلافات القائمة.
أما السبب الشخصى.. فهو تلك «الكيمياء البشرية» التى توافقت بين الرئيس السيسى والرئيس الأمريكى بعد لقائهما أثناء فترة الانتخابات الأمريكية فى نيويورك، ولعل التهنئة المصرية السريعة للرئيس ترامب وكذلك احتمالات زيارة ترامب للقاهرة أو دعوة السيسى لزيارة واشنطن تؤكد وجود تلك «الكيمياء» والصداقة المتوقعة بين الرئيسين، وكلنا نعلم أن «الأفراد» هم صانعو الأحداث.. والرئيس الأمريكى يحظى بأغلبية مريحة فى الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ، كما يحظى الرئيس السيسى بمحبة المصريين ودعمهم لخطواته وتوجهاته.
وأعتقد أن «داعش» إلى زوال نهائى وأن مشاكل سوريا وليبيا على وشك الحل القريب، أما مشكلتا اليمن والعراق، فالأمر يحتاج لممارسة «ضغوط» عربية لإنهاء التدخلات الإقليمية والدولية فيهما.
مرة أخرى.. وكما قال الشاعر مع التصرف:
الحقائق على الأرض أصدق أنباء من المحللين
وقد كذب المنجمون ولو صدقوا.. والمحللون أيضا
حفظ الله مصر.. وغدا أفضل بإذن الله.