عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الموت قبل الحياة أحيانا

الموت قبل الحياة أحيانا

بقلم : محمد عبد السلام

نهار خارجي.. البوابة الرئيسية لمستشفي الأطفال للولادة



صراخ وعويل.. لطم علي الخدود.. وأم مُغشي عليها.. ورضيع لم يمنحوه فرصة فارق الحياة.

ذلك المشهد لم يعد صدفة في الشارع المصري، فكل حارة وكل شارع في بلادي دائما رضيع يفارق الحياة، كل حارة وكل شارع فيه أسرة تعاني بحثاً عن "حضانة أطفال"، وبما أن المعادلة تقول أن عدد الأطفال ناقصي النمو يفوق عدد الحضانات التي تخدمهم بثلاثة أضعاف، فالنتيجة الحتمية وفاه أكثرهم قبل أن يروا تلك الحياة.

"كان نفسي أبقي أم".. تلك الصرخة التي أطلقتها قبل أن تسقط في غيبوبتها الطويلة، هي محور قصتي القصيرة داخل عنبر الأطفال المبتسرين، لأستمع لأصوات لأطفال رُضع حُرموا من مجرد فرصة للحياة نتيجة إهمال، وحرموا معهم أمهات وآباء من كلمة "ماما- بابا"، لتبدأ مأساة الإنسان المصري ليس كما يعتقد البعض بعد الولاده، وخروجه للدنيا، ولكنها تبدأ حتي قبل أن يولد، رفضت الأرض إستقبالهم، حرمتهم الدنيا من رؤيتها، فاختاروا بمحض إرادتهم الإبتعاد إلي دنيا تستقبلهم بصدر رحب.

"بابا.. ماما".. كلمة لمحاسن الصدف من أربع حروف، يمكن ان يبيع المرء كل ما يملك ليسمعها، في لحظة يمكن أن يفقدها، فقط لانه لا يملك ثمن حضانة، أو لأنه لا يجدها علي الإطلاق.. نظرة مضطربة علي مشاهد مختلطة من المشاعر المختلفة لأب أو لأم تنتظر علي باب أقسام الأطفال ناقصي النمو لينتظروا أحد مأساتين، إما مأساة عدم وجود حضانة وإما مأساة عدم وجود نفقاتها المرتفعة.

المشهد الأول:

ممر طويل مُظلم كالعادة، علي أحد مقاعده جلست تلك السيدة الأربعينية الواجمة غير عابئة ببرودة الشتاء القارص، ضربات قلبها المضطرب كان أنيس وحدتها في تلك الساعة من الليل، تعلقت عيناها بنافذة غرفة زجاجية كُتبت علي واجهتها حاضنة أطفال، ورغم دموعها الصامتة التي انسابت علي وجنتيها، كانت قسمات وجهها تعبر عن سعادة أم وجدت أخيرا فلذة كبدها يخرج الي النور بعد 23 عاما من الزواج.

"أخيرا جاء سيف الإسلام".. هكذا رددت سماح التي لم تدرك أن إمراة مثلها بلغت من العمر منتصف العقد الخامس يمكن أن تصبح أم في يوم من الأيام، وبين السعادة والحزن، والأمل واليأس، يرقد وليدها داخل حضانة لا تعلم كيف ستدفع ثمنها، ولكن يكفي أنها ستسمع أخيرا كلمة "ماما".

تذكرت تلك الأم الملكومة كيف أنها عانت بمجرد أن شعرت بأعراض الولادة، لم توافق أي من المستشفيات علي قبولها لأنها لا تمتلك حضانة للطفل الذي سيولد في شهر الثامن، رفضوها لأنهم لا يوجد لديهم قسم للاطفال المبتسرين، فخرجت وزوجها بحثا عن مستشفي توافق بها، إلي أن أنجبت في النهاية طفلها "سيف الإسلام" علي أحد أرصفة الشوارع، وإضطر زوجها لقطع حبلة السري بسكين، ودثره بقطعة من القماش.

هل تدركون معني أن يولد طفل بتلك الطريقة، وفي الشارع، وقبل الموعد المحدد، وفي ظل برودة الشتاء، يحدث هذا فقط في مصر، فهل تعتقدون ماذا يمكن أن يكون قد حدث للصغير، بالطبع كان له أبلغ الأثر علي حالة الطفل الذي تغير لونة إلي اللون الأزرق، فأسرع الزوج إلي مستشفي الجلاء التي وضعت الطفل في أحد حضاناتها في محاولة أخير لانقاذة، ولكن سبق السيف العذل.

المشهد الثاني:

"ملك.. سيبوني أشوف بنتي.. أنا بترجاها من سنين".. تلك كانت صراخ أحد الأباء أمام نفس الغرفة المشؤومة، رغم معرفته بخروج ابنته "ملك" إلي النور لم ينجح في رؤيتها أو سماع صراخها، فالطفلة ولدت في حالة سيئة، ولا توجد حضانة فارغة، وإدارة المستشفي تبحث عن حضانة في أي من المستشفيات المحيطة بلا فائدة.

قطعا هذا ليس مشهد سينمائي لأحد الأفلام المصرية القديمة، ولكنه مشهد واقعي من سينما الألم التي يعيشها أباء الاطفال المبتسرين كل يوم وكل لحظة، فالحزن والألم وقلة الحيلة والفقر سمة أضحت غالبة علي أباء الأطفال المبتسرين، فالحلم الذي راوده بالأبوة يموت بمجرد أن تزوج من فتاة عاشت حياة فقيرة، تعاني سوء تغذية تؤدي لولادة أطفال غير مكتملين يضطرون للحياة في عنبر الناقصين.

مجدي أبو السعود والد الطفلة "ملك" التي لم يراها، كان يعلم أن إبنتة ستولد مبتسرة لأن زوجتة تعاني سوء تغذية، وإنه علية أن يبحث عن حضانة لتستقبلها، فهام علي وجهة شمالاً وجنوباً، طاف محافظات القاهرة الكبري بحثاً عن حضانة، وطيلة سبعون يوم كاملة لم يعثر عليها، وكأنها "فص ملح وداب" علي حد تعبيرة.

المشهد الثالث:

رغم انها تعاني من آلام الحمل في شهرها السابع إستقلت ماجدة ذات الـ34 عاما قطار الشرق القادم من المنوفية إلي القاهرة، تلتحف بطانية تدثرت بها من برد شتاء حول عربة قطار لا يوجد به نافذة واحدة شباكها سليم إلي ما يشبة الثلاجة، رغم ذلك أطلت براس صغير تراقب بشرود قطرات المطر، داعية أن تحقق هذه المرة حلمها.

"مفيش حضانة واحدة فاضية".. تلك الجملة جعلت "ماجدة" تنتفض رعبا بمجرد أن تذكرتها، لقد كانت سببا في وفاة إبنتها الأولي العام الماضي عندما فقدت وليدها محمود، وكانت سببا في أن تُجبر زوجها علي المجيء إلي القاهرة حتي لا تفقد وليدها الثاني، ظنا منها أن الوضع في العاصمة سيكون مختلفا، ولكنه كان ظنا من البعض الإثم.

كانت ماجدة تعلم ان حُلمها كأي أم تحتضن طفلتها بمجرد ولادتها سيتلاشي، لأن وليدها سيتم وضعة تحت الإقامة الجبرية داخل حضانة مبتسرين، ولكنها تنازلت عن هذا الحلم في مقابل أن يعيش إبنها لتحقق حُلمها فيما بعد، حتي الأب الذي لم أعرف إسمة حتي الأن، تنازل هو الأخر عن حُلم ضم وليده إلي صدرة بعد أن فرض علية الآطباء حظر التجوال داخل ذاك الممر المشؤوم.

حلم الوجود

تلك المشاهد المؤلمة لم تكن الأولي أو الأخيرة، فلكم أن تتخيلون أحد أكبر المستشفيات المتخصصة فى الولادة في الشرق الأوسط، وهي مستشفي الجلاء للولادة، تلك التي تخدم القاهرة والقليوبية والجيزة ويستقبل شهريا ما بين 1200 إلى 2100 حالة ولادة، ولا يوجد به سوي 20 "حضانة" فقط، رغم أن الإحصاء العالمي للأطفال المبتسرين او غير مكتملي النمو تصل نسبتهم الي 10% من المواليد اي حوالي 15 مليون طفل، بينما في مصر تتضاعف النسبة لتصل الي 21% اي حوالي 500 الف طفل سنويا، نتيجة للفقر وسوء تغذية الامهات، ومع قله الحضانات المخصصة نجد انها لا تخدم سوي 40% فقط من الاطفال المبتسرين.

"مستعجلين علي الخروج للدنيا علي خيبة إية".. تخيلوا أن تلك العبارة إنطلقت من فم مسئول بأحد مستشفيات الولادة، فوفقاً لوجهة نظرة المريضة، حياة الأخرة أفصل لهم من حياة يعيشونها فقراء، حياة قاسية عاشات تفاصيلها المؤلمة أمهات لم ساهم الفقر في إصابتهم بسوء تغذية أدي لمعاناتهم قبل أن يولدوا، حياة فقيرة أجبرت بعضهن من الفرار إلي الزواج المبكر بحثاً عن معيل ينفق عليهن، زواج زرع في أحشائهن أجنة لم يُكتب لها الإكتمال داخل بطونهن، فكيف سيكون حال من خرج من جوف كان يعتقد أنه يسع الدنيا وما فيها، ليعيش في أرض لم تسع في يوم من الأيام أبية وأمة وكل من لهم حق عليهم.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز