

محمد عبد السلام
لا مؤاخذة ديمقراطي
بقلم : محمد عبد السلام
"أستاذ، هو أنت لا مؤاخذة، لا مؤاخذة يعني في الكلمة، اللهم أحفظنا، ديمقراطي؟".. رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود مازالت تلك العبارة واحدة من أغرب الجمل التي قيلت في السينما المصرية، والتي رغم غرابتها مازالت تحافظ علي واقعيتها في عالمنا الشرقي الكاره لذلك الشيء المُسمي اصطلاحاً "ديمقراطية".
لم يدرك المثقف الثوري "عادل صدقي" والذي أدي دورة الفنان العظيم أحمد زكي، أن جهوده لنشر العدل والمساواة والحرية ستتحطم علي صخرة فلاح الواحة "سليم سالم" الذي برع في تقديمها الفنان الأعظم حمدي أحمد، ولكنه كان يدرك جيداً أن الديكتاتور "نبيه بيه الأربوطلي" أو جميل راتب، والذي تولي رئاسة واحتهم بانتخابات حرة نزيهة، سيستغل جهله للحفاظ علي عرش عده استحقاق أبدي، فجاءت رائعة السينما المصرية عام 1986 في فيلم "البداية".
"حاولت أن أقدم فيلماً خيالياً ولكني وجدته يأخذ شكلاً من واقع الحياة، يظهر ذلك التسلط في مجموعة بشرية سقطت بهم طائرة في واحة صحراء مصر، بينهم الفلاح والعامل والمثقف والعالم ورجل الأعمال الانتهازي، الذي يفرض سلطة على موارد الواحة ممارساً حكماً شمولياً على هذه المجموعة من البشر مرتكزاً على سلاحه وذكائه وجبروته".. هكذا كانت رؤية مخرج الواقعية في السينما المصرية صلاح أبو سيف، حينما سألوه عن الأسباب التي دفعته لصناعة "البداية" للكاتب المسرحي لينين الرملي.
الحقيقة أن صلاح أبو سيف جانبه الكثير من الصواب حينما قال عبارته تلك، مرت السنون والعقود ونحن نطلق ضحكاتنا علي جملة الفلاح البسيط "سليم سالم"، لم نكن نعلم السبب الحقيقي في ذلك، هل للطريقة التي أدي فيها الفنان "حمدي أحمد" هذا المشهد، أم للصدمة التي قتلت حلم المثقف الثوري "عادل صدقي" في تحقيق أحلامه، إلي أن انفجر بركان الربيع العربي، يومها اكتشفنا أن هستيريا الضحك كانت تُصيبنا لواقعيتها التي دائماً ما كنا نلمسها ونرفض الإفصاح عنها، فقد خرجت بمنتهي السلاسة من كونها جملة داخل نص سينمائي كوميدي، إلي إطار أوسع ذات جزء لا يتجزأ من شخصيتنا الاجتماعية والسياسية.
"الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية".. في الوقت الذي تجتاح فيه ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 الشوارع المصرية، خرج علينا "حسني مبارك" في إحدي خطاباته ليؤكد أنه اكتفي من الخدمة العامة علي مدي 62 عاماً وإنه يجب أن يذهب بالفعل، ولكن ليس الأن، وفي ليلة السادس من فبراير وقبل تنحي "مبارك بخمسه أيام، أطل علينا الراحل اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، علي شاشة هيئة الإذاعة الأمريكية، قناة شبكة تليفزيون abc، وسمعنا جميعاً المذيعة الأمريكية وهي تستفسر منه عن التصريح الذي أطلقة حسني مبارك وحول المخاوف المتعلقة برحيله فوراً، وفاجئنا سليمان بتلك الإجابة، "لا نريد اضطرابات في بلدنا.. فعندما يقول الرئيس إنه سيغادر الآن.. فمن سيتولى السلطة.. ففي ظل تلك الأجواء سيقوم آخرون ممكن لهم أجندتهم الخاصة بشكل من عدم الاستقرار.. كلنا نؤمن بالديمقراطية ولكن متي نطبق ذلك.. في الوقت الذي يمتلك فيه الناس ثقافة الديمقراطية".
يوم أن قال اللواء عمر سليمان تلك العبارات لم نضحك عليها كما ضحكنا علي عبارة فلاح "البداية" البسيط، أعلنا جميعا عن رفضها، بل رفضنا حتي تناولها بالتحليل، وزعمنا أنه يتعمد أهانه شعب مصر بتلك المقولة، لم نكن ندرك أن روح الفنان العظيم حمدي أحمد في دورة في فيلم البداية تتجسد في هذا الشعب صاحب الحضارة العريقة، والكارثة أن تلك الروح لم تتجسد في عقول الفلاحين والعمال البسطاء، ولكنها عششت في عقول حتي من يزعم أنه ينتمي الي فئة المثقفين، فكانت النتيجة أن سمحنا لعشرات ومئات بل الآلاف من "نبيه بيه الأربوطلي" للسيطرة عليهم، فضاع حُلمنا في التغيير أمام شبح "لا مؤاخذة الديمقراطية".
طيلة ستة سنوات كاملة نكتشف يوم بعد يوم أننا بالفعل شعب لا يحب الديمقراطية، وان "لا مؤاخذة" الفعل الديمقراطي لم يكن في قاموس حياتنا الثقافية، وأنها لم تُصيب جماعة المؤيدين فقط، ولكنها أصابتنا حتي نحن معشر المُعارضين، حتي وإن كنا ندعي عكس ذلك، أضحي داخل عقل كل منا "سليم سالم"، ولكننا نمثل دوراً كاذبا نزعم فيه إننا جميعا "عادل صدقي"، وخلف الكواليس يحركنا "نبيه بيه الأربوطلي" وكأننا عرائس الماريونيت، ولم يكن ينجح لولا جناحية المؤثرين، الجناح الإعلامي ممثلا في الصحفية "شهيرة كامل"، والجناح العسكري ممثلا في كبير الشرطة "صالح محمود" وعصاته، واللذان لعبا دوريهما الفنانة صفية العمري والفنان صبري عبد المنعم.
قبل 25 يناير، أو حتي بعد 25 يناير، تلك هي التوليفة التي تحكم الشعب المصري، شعب يُعد من أقدم شعوب العالم ثورة علي الديكتاتورية والظلم، وكان أول من طالب بحريته قبل أربعة آلاف ومائتي عام مضت، وتحديداً عام 2184 قبل الميلاد، حينما أطلق شعب مصر صرخته ضد الملك بيبي الثاني مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فهذا الشعب حينما يطفح به الكيل لا يهدأ له بال إلا وأزاح حاكماً وولي أخر، وبمجرد أن يعود إلي منزلة يبدأ في تنصيبه فرعوناً جديداً ليثور علية فيما بعد، تلك هي دورة حياة المصريين، يثوروا لينصبوا فرعونا جديد.
عشية إحدي التظاهرات المُعلنة لجماعة المعارضين حظيت بلقاء حواري مع الكاتب والروائي بهاء طاهر، والذي يُعد أحد أهم كُتاب الرواية المصرية، يومها تحول الشارع المصري إلي فريقين، أحدهما معارض يتهم بالعمالة، والأخر مؤيد يصفهم بالكفر، وبعد عامين ثار شعب مصر وأزاح حاكماً أراد أن يفرض سطوته، مرت السنون والأعوام، وأضحي هناك رفض لفئة من نفس الشعب، فقررت الخروج للإعلان عن رفضها، فتحول الأمر إلي فريق معارض يخون الجميع، وفريق مؤيد يتهمهم بأنهم مجرد طابور خامس للقوي الاستعمارية، وما بين التخوين والتكفير طفت علي السطح ثقافة مجتمع يرفض لا مؤاخذة الديمقراطية، فطبقاً لبهاء طاهر، أنصار التكفير والتخوين يتقمصون شخصية "سليم سالم" في بداية مخرج الواقعية صلاح أبو سيف، رافضون لـ"الديمقراطية"، راهبون لفكرة "التغيير".
كأي مصري يزعم أنه مثقف، يحمل رؤية سياسية، لدي صفحة رسمية علي موقع التواصل الاجتماعي، ولدي بطبيعة الحال أصدقاء، البعض مؤيد، والبعض الأخر معارض، وتلك في أي مجتمع ديمقراطي حالة صحية، بيد أن تلك الحالة في مجتمعنا المصري لم تكن بتلك الصورة التي كنا نحلم بها، فالجميع يزعم انه ما أيد هذا الفريق إلا لأنه يحب بلدنا، في حين أنه يهاجم مصر إذا ما تولي الفريق الأخر سده الحكم، فيقوم بالتفرغ الكامل لاتهام كل من يعارضه بما يتفق والأيديولوجية التي يحمل توجهاتها، فنجدهم يرفضون موقفا ويعارضونه بشده طالما أنه يصدر من الفريق الأخر، ولكنهم يستميتون في الدفاع عنه إذا ما صدر من مؤيدهم، فأي ديمقراطية تلك التي يتحدثون عنها.
"لماذا يرفض المصريون الديمقراطية؟!".. لم يكن اللواء عمر سليمان أول من تحدث عن رفض المصريين للديمقراطية، هناك من تناول قضية عدم أهلية الشعب المصري لتلك الثقافة، ولكننا لم نسمع في يوم من الأيام عن الأسباب الحقيقية التي من أجلها يرفض المصريون لـ"لا مؤاخذة الديمقراطية"، فجميع التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية والشيوعية والإسلامية وحتي القومية، ومن صار على نهجهم واتبع طريقتهم فى مصر صدعت رؤوسنا بالديمقراطية ليل نهار، وأقنعونا أن الديمقراطية هي حق الشعب فى اختيار من يمثله دون تزوير أو تدليس، وعندما نزل هذا الكلام النظري لأرض الواقع، وبمجرد أن يعتلوا منصباً حتي تطفو علي السطح ثقافتهم القديمة، ويحولوا زعيمهم إلي "نبيه بيه الأربوطلي"، بل ويسلمونه خيوط التحكم والسيطرة فيهم، في حين يستسلمون هم لسب بعضهم البعض.
لكن السؤال هنا، هل نستسلم لتلك الحالة التي وجد عليها أبائنا وأجدادنا؟، هل نترك كل "أربوطلي" يسيطر علي روح "سليم" التي عششت داخل كل فرد فينا؟، فيظن أن "لا مؤاخذة" الديمقراطية إثم عظيم، ونعيش داخل تلك الدائرة التي ترفع شعار عاش الملك مات الملك، أم ينجح المثقف الثوري في زرع ثقافة جديدة لديها قابلية علي احترام فكرة الديمقراطية؟.