

محمد نجم
إسلاميات العقاد
بقلم : محمد نجم
ضحكت كثيرًا حتى أدمعت عيناي، عندما سمعت المذيعة تخاطب صحفيًا.. ظهر على السطح فجأة.. وفي ظروف غامضة بـ«أسد الصحافة» مع أن هذا المدعي لم يكن له ماض أو تاريخ صحفي يعتد به، وأنه احترف مؤخرًا الاتجار في العقارات!
وما أضحكني.. أنني كنت وقتها مستغرقًا تمامًا في قراءة موسوعة ضخمة جمعت بعض مؤلفات أحد رواد الصحافة والكتابة في مصر، وهو الكاتب العصامي الكبير محمود عباس العقاد.. صاحب السلسلة الشهيرة «العبقريات»!
لقد كان ضحكي.. أشبه بالبكاء على ما وصلنا إليه من زيف وادعاء.. وإطلاق أوصـاف علـى بعـض «النكـرات» ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد قرأت العبقريات الخمسة من قبل (محمد، والصديق وعمر وعلي، وخالد) ومنذ أن كنت طالبا في المرحلة الثانوية، وفي مناسبات مختلفة، وكنت أندهش من عمق الفكرة وسلامة التعبير عنها بكلمات قوية في جمل قصيرة، مع عمق التحليل الذي يكشف عن جدية البحث وسعة الثقافة، لكن عندما وقع نظري على موسوعة الإسلاميات، لكاتبنا الكبير، لم أستطع مقاومة إعادة القراءة المتأنية- هذه المرة- مع مقارنة ما كتبه الرواد الآخرون عن أحداث تلك الفترة، ومنهم العميد طه حسين، وأحمد أمين، وخالد محمد خالد، ومحمد حسين هيكل وغيرهم.
لقد أحسنت دار المعارف- منارة الثقافة في مصر والعالم العربي- عندما جمعت هذا التراث الممتع لكاتبنا الكبير في موسوعة واحدة في إصدار فاخر.. بعنوان «إسلاميات»، قدمها العقاد «بمقدمة المقدمات» استعرض فيها عضلاته الفكرية والأدبية عندما تحدث عن بعض المقدمات التي تمهد لنتائجها وتفضي إليها، ومقدمات أخرى تأتي بعدها النتائج الضرورية والمتوقعة.
ثم تبدأ الموسوعة ببحث رصين عميق السرد والتحليل بعنوان «مطلع النور» وهو عبارة عن رصد ودراسة لطوالع البعثة المحمدية.. يطوف بنا فيها هذا العبقري الفذ على أحوال العالم والجزيرة العربية، وتاريخ الأسرة الهاشمية، فضلا على مقدمات النبوة وحديث مختصر عن المجوسية، واليهودية، والمسيحية، ويصل بنا الكاتب إلى أن هناك «حاجة إلى دين جديد».. وقتها.
وقد لفت نظري أن هذا البحث «مطلع النور» يتضمن ردًا وتصحيحًا على ما أورده عميد الأدب العربي في كتابه «الشعر الجاهلي»، حيث أشار إلى انتحال الشعر الجاهلي وعدم صحة نسبته إلى كبار الشعراء أمثال امرئ القيس والمهلهل والنابغة وغيرهم، بل كان العقاد صريحا عندما أورد عنوان أحد الفصول بـ«تزوير الأدب الجاهلي مستحيل»، إلا إذا كان صادرًا عن سوء فهم وسوء نية، مشيرًا بالفخر باللسان العربي، ووحدة الكعبة، ومعركة ذو قار.. التي انتصر فيها العرب المتحدون على الفرس المحتلين!
ولكنه خلاف العمالقة في الأدب والثقافـة، لا إسفاف ولا تسطيح، وإنما رأي جديد، يقابله حجة داحضة!
ثم تنتقل الموسوعة في أجزاء متتالية إلى العبقريات في ترتيب زمني لأصحابها، حيث عبقرية محمد، ثم عبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية الإمام علي، وأخيرًا عبقرية خالد.. وهو خالد بن الوليد أشهر قائد عسكري في التاريخ الإسلامي.. والذي لقب بـ"سيف الله المسلول".
ولكن أهم ما تضمنته تلك الموسوعة- في رأيي- الفصلان المعنونان بـ«الحسين أبو الشهداء» و«فاطمة الزهراء».
فالأول «أبو الشهداء» عبارة عن تحليل نفسي للزمان وأطراف المعركة.. ومكان استشهاد الحسين، «إذا جاز هذا التعبير أو الوصف»!
وقد أدهشني هذا العبقري.. العقاد في قدرته الرهيبة على التحليل والمقارنة بين كل من يزيد بن معاوية والحسين بن علي.
ويكفي الإشارة هنا للعناوين المختلفة في هذا الفصل، التي تعبر عن مضمونه، حيث يتحدث العقاد عن طبائع الناس وأن هناك- وقتها- مزاجين تاريخيين، ثم الخصومة التاريخية بين الأمويين والهاشميين.. والموازنة بين الخصمين.
ومن طرائف هذه الخصومة التي كانت بين الأجيال المختلفة في الأسرتين، أنه عندما تنازع عبد المطلب جد الرسول، وحرب بن أمية، جد معاوية بن أبي سفيان، على الزعامة في قريش، احتكما إلى نفيل بن عدي.. جد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
وقد حكم نقيل لعبد المطلب بالزعامة.. وخاطب حرب لائما على تلك المنازعة غير المبررة بهذا «البيت» من الشعر:
أبوك معاهر وأبوه عف
وزاد الفيل عن البلد الحرام
ومن ثم.. لا يستغرب العقاد أن تتجدد هذه «المنازعة» بين النبي محمد وأبو سفيان بن حرب، ثم بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأخيرًا بين يزيد بن معاوية والحسين بن علي.
ولكن أمتع ما ورد في هذا الفصل، ما كتبه العقاد تحت عنوان «خطأ الشهداء» وإجابته على من الظافر!
حيث نهاية المطاف لتلك الخصومة المتأصلة بين الأسرتين، فضلا على تحليله النفسي العميق لشخصية الحسين، وأسباب إصراره على منازعة يزيد.. وهو يعلم قلة عدده وعتاده!
أما الفصل الأخير في الموسوعة.. فقد تناول فيه العقاد حياة فاطمة الزهراء بنت الرسول زوجة الخليفة الرابع الإمام علي وأم أبو الشهداء الحسين، والتي ينتمي إليها الفاطميون الذين تمكنوا بعد جهد جهيد وزمن طويل من إقامة دولتهم «الفاطمية».. التي بدأت في المغرب.. وانتقلت إلى مصر واستقرت فيها، حيث أسسوا الجامع الأزهر الشريف ولقب خلفاؤها بـ«الحاكم بأمر الله» وكان أشهرهم «المعز لدين الله».
وبالطبع مع تجليات العقاد في تفسير «الباطنية الفاطمية»، وقصة حسن الصباح مؤسس جماعة الحشاشين، وانتهى إلى «حضارة متحضرة».
وقد ختم العقاد الموسوعة بفصل «في عالم الجمال» حيث أورد فيه مجموعة من الأشعار التي قيلت في آل البيت ولعل أشهرها ما قاله الفرزدق في السجاد علي زين العابدين عندما تساءل الخليفة هشام بن عبد الملك عن «هذا الذي يفسح له الناس الطريق في الحرم»؟
حيث تحداه الفرزدق قائلا:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم