

سهام ذهنى
اشتقنا للأيام السعيدة
بقلم : سهام ذهنى
أشتاق لأمور كانت عادية جدا وبديهية ولم نكن نلتفت لحلاوتها من قبل.
أشتاق لفكرة أن يكون موضوع الحديث بينى وبين صديقاتى هو تبادل الحكايات عن الأبناء، واندهاشنا من ذهابهم إلى السينما فى حفلة منتصف الليل التى يترتب على الذهاب إليها العودة قرب الفجر، وجرس باب الشقة الذى يرن بعد منتصف الليل لأن الأبناء قرروا تناول سندوتشات «شاورمة» خلال سهرتهم أمام شاشات الكمبيوتر، فى تلك الأيام التى كنا نتحدث فيها حول مشاكلنا الخاصة المتعلقة بالشغالة التى تتغيب.
أو يكون موضوع الحديث بين الصديقات حول الشكوى من الزوج الذى ازداد اهتمامه بمظهره وقضاء أطول أوقاته خارج المنزل، من جلوسه كالأخرس فى البيت، وعبوسه مع طلعة النهار فى يوم العطلة.
أشتاق لضحكنا على حكايات الزوجة التى تفتش التليفون المحمول لزوجها، وتتصل به كلما خرج فى المساء، وتعكنن عليه كلما عاد متأخرا.. أشتاق للحديث فى الشئون العامة، عندما كان الحديث عن أحوال البلد لا يأخذنا إلى حوار السفسطة، والتربص، والتصيد، وزراعة الكراهية، ولا يتخلله صياح وتخوين واحتداد يترتب عليه تباعد وجفاء يجعل الود فى حالة انطفاء.
أشتاق لشوارع بلا أسلاك شائكة، وأسفلت لا يحمل آثار دهم المجنزرات للطرق.
أشتاق لميدان مصطفى محمود بدون المدرعات وبدون عربات الأمن المركزى، وبدون حشود المجندين المسلحين. أشتاق لعبور ميدان مصطفى محمود القريب من بيتى يوم الجمعة فى طريقى لشراء مخبوزات من محل معين صار الوصول إليه يستدعى استخدام شوارع التفافية كأننى أدور حول الكرة الأرضية لأن ميدان مصطفى محمود يتحول فى يوم الجمعة إلى ما يشبه منطقة عسكرية مغلقة حتى على المشاة الذين لا يُسمح لهم بالمرور عبر حواجز الأسلاك الشائكة التى تغلق الشوارع المؤدية إليه.
أشتاق لمشاعرى عندما كنت أتجول فى شوارع القاهرة بعد ثورة 52 يناير وأنا أدندن مع نفسى أغنية «فى كل شارع فى بلادى، صوت الحرية بينادى»، حينما كنت أحس خلال السير أن الأكسجين فى الهواء قد صار أكثر. هل الأكسجين كالطعام، بعضه طازج جميل، وبعضه بايت وفاسد يجثم على الصدور كحال الهواء الذى يملأ الأجواء الآن.
أشتاق لحالة الشوارع فى مصر حين كنت أعود إلى البيت أحيانا من حفل زفاف فى الثانية أو الثالثة صباحا فأردد أمام ابنىّ أن القاهرة اليوم تبدو وكأن كل أهلها فى الشارع، فيأتينى الرد منهما فى كل مرة بأن هذا هو حال الشوارع يوميا وأن لا أحد ينام فى القاهرة.
أشتاق للاستماع إلى صوت طلقات تصل إلىّ وأنا أجلس فى بيتى فأفهم ضمنيا أنها أصوات إطلاق ألعاب نارية بمناسبة انتصار فى مباراة لكرة القدم، أو لأى مناسبة يتم التلكك بها من الناس كى يبعثوا بالألوان المفرحة فى سماء البلاد عندما لم تكن تلك الأصوات يترتب عليها أى تساؤل حول ما إذا كان ما نسمعه داخل البيوت هو صوت إطلاق للأعيرة النارية على متظاهرين.
أشتاق لسماء بلادى لا يسرى فى هوائها سيرة الدم والاقتتال والفقد والاعتقال.
أشتاق للحياة العادية، للأشياء التى تبدو بسيطة لكنها تعبر عن أن الحياة طبيعية. مثلما كانت فيروز تغنى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية: «اشتقنا للأيام السعيدة، أيام السهر على الطريق».