

عصام ستاتى
الأغنية الوطنية فى معارك 1956
بقلم : عصام ستاتى
عندما بدأ العدوان الثلاثى على مصر لثلاثة دول هى إنجلترا وفرنسا وإسرائيل وبدأت فى المقابل المقاومة الباسلة على أرض بورسعيد وفى هذا التوقيت لم يكن هناك فى الإذاعة المصرية أغنية واحدة تعبر عن الموقف والأحداث وتلهب المشاعر وتنهض بالههم ولكن المبدع المصرى كعادته يتجلى فى الأزمات فمثلما تجلى الشيخ سيد دروديش فى ثورة برمهات مارس 1919 تجلى مبدعو مصر ليقدموا 44 أغنية ونشيداً فى عشرة أيام وهى أعمال عظيمة لازالت محفورة فى ذاكرتنا الوطنية وتعد من أروع ما أنتجته القريحة الإبداعية ورغم ارتباط هذه الأعمال بحدث إلا أنها أصبحت أيقونة فمن منا لايذكر الأغنية الرائعة والله زمان يا سلاحى والتى وضع موسيقاها فور الأحداث كمال الطويل واتصل بصلاح جاهين وقال له فى رأسى موسيقى أريد لها كلام وأسمعه المقدمة الموسيقية فما كان من صلاح جاهين إلاّ أن يقول له اقفل السكة وبعد قليل كلم كمال الطويل ليسمعه والله زمان يا سلاحى .
والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى
انطق وقول أنا صاحى يا حرب والله زمان
بعد أن وضع أساس اللحن كمال الطويل اتصل بالسيدة أم كلثوم وأسمعها كلمات صلاح جاهين فطلبت منه الذهاب لها على الفور واستقبلته بالفرقة المصغرة عازف الكمان الحفناوى وعازف القانون عبده صالح وعازف الإيقاع إبراهيم عفيفى وبدأت هذه الورشة تصنع الأغنية بحماس لايقل عن حماس المقاتل على الجبهة واتصلت أم كلثوم بالإذاعة التى أبلغتها أن التسجيل يتم فى استوديو مصر لأن العدو هدد بضرب الإذاعة ولكنها أصرت أن يتم الغناء فى استوديهات الإذاعة وقالت : "أنا أموت فى الإذاعة ولا يقال أنى هربت " وبالفعل ذهبت فى اليوم التالى للإذاعة وعندما سمعت توزيع أندريا رايدر بكت .
مصر الحرة مين يحميها
نحميها بسلاحنا
أرض الثورة مين يفديها
نفديها بأروحنا .
ومن الأعمال التى تهز الفؤاد القصيدة الغنائية دع سمائى وبالرغم أن من أعلى أجزائها الأبيات التى تقول : " هذه أرضى أنا ، وأبى ضحى هنا ، وأبى قال لنا ،مزقوا أعداءنا " إلا أن هذه الأبيات لم تكتب خصيصاً لهذا العمل الرائع بل كانت ضمن قصيدة اسمها كوريا كتبها الشاعر كمال عبد الحليم عام 1950 أثناء الحرب الكورية وعندما قام العدوان الثلاثى عادت ترن هذه الأبيات فى أذن المطربة الوطنية فايده كامل فقامت بالاتصال بالشاعر كمال عبد الحليم وطلبت منه أن يكتب لها قصيدة غنائية يتضمن هذه الأجزاء لتقوم برفع الروح المعنوية للمقاومة الشعبية وحرب الشوارع فى بور سعيد ، وبالفعل أغلق كمال عبد الحليم على نفسه فى شقته بعابدين تحت أصوات غارات طائرات العدو و فى الصباح حملها أخوه إبراهيم إلى كامل الشناوى فى جريدة الأهرام الذى قام بتأجيل نشر يومياته ونشر دع سمائى وكتب سطر واحد دع سمائى هى يومياتى ، ومن الأهرام أخذت الإذاعة الأغنية وأعطتها إلى الموسيقار على إسماعيل الذى اقترح فايده كامل لغنائها فى الوقت التى كانت فايده تتصل بالإذاعة من أجل أن تعرض الأغنية لاختيار ملحن لها ، وما يتعلق بهذا العمل أيضاً أن الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل كان المسئول عن الأغانى بالإذاعة وعندما عرضت عليه الكلمات المنشورة بالأهرام قام بحذف بيتين من القصيدة هما .
أنا أقسمت بحبات الرمال وبأجساد جنودى فى القنال
وبأمجاد النضال وجمال أن الأستعمار محتوم الزوال
دع سمائى فسمائى محرقه دع قناتى فقناتى مغرقة .
لأن الشاعر الكبير كان يرى أنها معركة شعب وكفاح شعب وليس مناسباً أن ينسب النضال والكفاح إلى فرد حتى لو كان فى حجم جمال عبد الناصر ومع ذلك حصل الشاعر كمال عبد الحليم على وسام من الرئيس جمال عبد الناصر تكريماً له عن هذا النشيد الذى يستحق بالفعل التكريم .
دع سمائى فسمائى محرقة دع قناتى فقناتى مغرقة
وأحذر الأرض فأرضى صاعقة
هذه أرضى أنا وأبى مات هنا
وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا .
ومن الأناشيد الهامة جداً نشيد الله أكبر الذى كتبه عبدالله شمس الدين ولحنه المبدع محمود الشريف وغناء المجموعة ، وترجع قوة النشيد وعنفوانه أنه لحن والوطن يقذف بنيران وغارات العدو وأيضاً زوجة محمود الشريف مريضة ولا يستطيع طبيب أن يذهب لها فى هذا الجو العام المخيف ، ومع صرخات ألم الزوجة وضربات الغارات ، لم يجد محمود سوى العود ليستخدمه ألة يحارب بها ويوجه محنة وطنه ومحنته الشخصية فأخرج من أوتار العود قذائف فى وجه العدو .
الله أكبر الله أكبر الله أكبر فوق كيد المعتدى
والله للمظلوم خير مؤيدى أنا باليقين وبالسلاح سأفتدى
بلدى ونور الحق يسطع فى يدى قولوا معى قولوا معى
الله اكبر .
وعلى عكس هذا النشيد الحماسى القوى ، هناك أغنية هادئة مؤثرة تخاطب الوجدان وتعطى حكمة ونصيحة الأب للأبناء وهى أغنية ندراك لليوم دا يا ولدى كلمات الرائع عبد الفتاح مصطفى ولحن شيخ الملحنين أحمد صدقى وغناء الصوت الدافئ أحلام وهذا النوع من الأغانى غالباً ما يبقى فى الوجدان حتى بعد انتهاء الحروب لأنها تخاطب الحس الإنسانى وعواطفه أكثر مما تطلق صيحات وصرخات .
ندراك لليوم دا ياولدى تحمينى وتحرس بلـــــدى
سافر مع ألف سلامه يوم ما أوفى الندر ده عيد
ياشوفك هنا بكرامه يا تروح الجنه شهيــــــد
نادراك لليوم دا يا ولدى
أما الرائعة التى لخصت المشاعر الإنسانية بالكلمات الدافئة جداً والتى كتبها إسماعيل حبروك ولحن البياتى الحنون لمحمد الموجى والصوت الحميم جداً شادية .
أمانه عليك أمانه يا مسافر بور ســـعيد
أمانه عليك أمانه تبوســــلى كـــل أيـــد
تبوسلى كل أيد حاربت فى بور سعيد .
ومن خلال رصدنا لما تم إنتاجه فى هذه الفترة وهى 44 نشيدا وأغنية نرى تنوع فى كل شئ سواء فى المبدعين من مؤلفين وملحنين ومطربين ، أيضا تراوح الغناء بين الفردى والجماعى ، بين الفصحى والعاميه ، بين السخونة وشد الهمم وبين النعومة ومخاطبة الوجدان ، فقد غطت هذه الأعمال كل المساحات المطلوبة منها فى هذه الفترة بل تجاوزتها لتعيش فترات وفترات وتشكل كنزاً من كنوز تراثنا الإذاعى المحفوظ لكل الأجيال مثل نيل مصر الجارى الذى قال عنه فى هذه التجربة الشاعر محمود حسن إسماعيل
أنا النيل مقبرة الغــــزاه أنا الشعب نار تبيد الطـــغاه
أنا الموت فى كل فج إذا عدوك يا مصر لاحت خطاه
وطبعاً لا ننسى أنها من ألحان رياض السنباطى وغناء نجاح سلام .
ورغم التنوع الذى تحدثنا عنه إلا أن هناك نجم ظهر جلياً فى هذه الأعمال وهو رسام الكاريكاتير الشاعر الغنائى الصحفى المبدع صلاح جاهين .
الذى قدم أكثر من عمل فى هذه الفترة تكلمنا عن والله زمان يا سلاحى كما قدم محلاك يا مصرى التى لحنها محمد الموجى وغناء سيدة الغناء العربى أم كلثوم .
محلاك يا مصرى وإنت ع الدفة
والنصرة عاملة فى الكنـال زفة
يا أهل مصر تعالوا ع الضفة
شاوروا لهم ، وغنوا لهم ، وقولوا لهم
ربنا قال مفيش محال
راح الدخيل ، وابن البلد كفى .
كما قدم صلاح جاهين رائعة أخرى هى يا سايق الغليون والتى لحنها محمود الشريف وقام بالغناء محمد عبد المطلب وهى من الأغانى التى تحمل مفردات أهل القنال الذين يقولون على القارب الذى يعمل بموتور غليون وهو من اللفظ اليونانى جليون . فجاءت الأغنية كأنها رسالة من سكان الكنال لباقى سكان مصر .
يا سايق الغليون
عدى القنال عدى
وقبل ما تعدى
خد مننا ودى
دا اللى فحت بحر القنال جدى
عدى القتال عدى القنال عدى
بحر القنال
يا كترها رماله
وجدنا فوق الكتاف شاله
بحر القنال اتبدلت حاله
وجدنا يتهنى بعيــــــاله .
ما أجمل الصدق فى أغانى هذه الفترة التى عبرت فيها المشاعر المصرية وليس هذه الأعمال وحدها التى تستحق الرصد والحديث ولكن يستحق هذا أيضاً ما أنتجته القريحة الشعبية وأغانى السمسمية والتى تستحق منا فى المستقبل سطور خاصة بها تحية لكل من كتب وكل من لحن وكل من غنى وكل من سمع وطرب والمجد لمن ضحى وقاتل واستشهد .