

د. حسام عطا
شفيقة المصرية.. مأساة الحرية والحب
إنها الشخصية الاستثنائية المدهشة المركبة إلى حد كبير في خروجها عن تقاليد أسرتها، المنتمية للطبقة المتوسطة المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المصري.
نها الراقصة الأشهر، التي ولدت ونمت وازدهر اختلافها وطافت شهرتها الآفاق في المملكة المصرية.. إنها شفيقة القبطية (1851: 1926)، نجمة شارع الفن والترفيه والسهر الليلي، في شارع عماد الدين، كانت صالتها الشهيرة الفاخرة ملتقى السهر والتسلية الأنيقة لكبار رجال الطبقات العليا في المجتمع.
تعد من أبرز من تدرب لدى راقصة شهيرة، هي الراقصة شوق التي حصلت على حق الرقص في حفلات الخديو 1871.
وهي التي أورثت شفيقة فرقتها، ووضعتها على أول طريق الشهرة والانتشار.
ومن نجاح شفيقة الأنيق في ملهى الأولدورادو، ثم ملهى ألف ليلة بشارع عماد الدين، الذي كان يُحاكي كتجمع للترفيه في مكان واحد منطقة الوست إيند في لندن والبوليفار في فرنسا بباريس، ثم شاعر يوروداوي في نيويورك بأمريكا الصاعدة بقوة آنذاك.
وشارع عماد الدين بتخطيطه الحديث المنتمي للقاهرة الخديوية، يعود في تصميم المعماري الجميل إلى كبير مهندسي السرايات الخديوية آنذاك في عهد الخديو إسماعيل، وهو المعماري أنطونيو لاشاك.
وهو الشارع الذي استمر بعد رحيل شفيقته القبطية ليزهر بالنجوم اللامعة عابرًا نحو النصف الثاني من القرن العشرين بعمالقة ظهروا في النصف الأول، وأكملوا مشوارهم الفني، ومنهم يوسف وهمي، نجيب اليحاني، علي الكسار، وغيرهم.
وقد ألهمت قصة حياتها العديد من الكتاب والمخرجين في مصر، فقدم المسرح المصري عنها مسرحية ضاحكة لم تتناول العالم المأساوي لها تمامًا، وهي مسرحية شفيقة القبطية، تأليف جليل البنداري وإخراج فايز حلاوة 1963، والتي قدمتها فرقة تحية كاريوكا من بطولتها آنذاك.
وكذلك كتب البنداري قصة صاغ لها السيناريو والحوار محمد مصطفى سامي، وأخرجه أيضًا في العام ذاته 1963 حسن الإمام من بطولة هند رستم وحسن يوسف وحسين رياض وغيرهم، والفيلم يتعرض لمأساتها ولشعورها بالضياع ومحاولتها تعويض فقدها للحب والأمومة عبر فيض حنانها مع ابنها ذكي، وعدد من أصحاب الحاجات القريبين منها.
والفيلم يقدم تلك النهاية المأساوية بعد ضياع الثروة والشباب والجمال.
وفي هذا الإطار تناول أ.د مصطفى سليم المؤلف المسرحي سيرة شفيقة، التي أطلق عليها شفيقة المصرية، ليتم عرضها من إخراج محمد صابر الآن على مسرح البالون بالعجوزة، ولكن د.مصطفى سليم يتناول حياتها تناولًا دراميًا جديدًا يركز على عذابها وعذاب راغب باشا، الشخصية الدرامية، الذي عشق شفيقة، ويتأمل ويحلل ويحاول البحث عن العالم النفسي للعاشق المحب، الذي يحاول الفصل بين حبه ومركزه الاجتماعي، راصدًا هذا التناقض، إذ إنه يعيش ألمًا مثل ألم شفيقة نفسها، والتي كانت محرومة من الاعتراف الاجتماعي بها رغم شهرتها، ليرصد النظام الاجتماعي الذي يحولها إلى أداة للمتعة والتسلية بلا اعتراف بها يسمح لها بالأمومة والحب، بل ويطردها من عالم الأسرة التي تتبرأ منها.
إنها تلك المعاناة التي عاشتها شفيقة بين الشهرة والحرية والحب، في تصادم مع الاعتراف الاجتماعي والحرمان من الأمومة، والضياع التدريجي مع تراجع الجمال والشباب والثروة.
ومصطفى سليم يحاول أن يجد صيغة جديدة في ذلك الباشا الذي جعلها تمتلك صالة كبرى بعماد الدين، ثم عندما اصطدم بها فور تجرأ ابنها بالتبني على طلب الزواج من ابنته، وانقلاب الأوضاع المستقرة في علاقته بشفيقة، يقوم الباشا راغب بسحب كل الصلاحيات منها، ويتم انتقال ممتلكاتها وعالمها الفاخر إلى واحدة من أفراد فرقتها.
إنه يتحدث عن ألم إنسائي عميق للرجل العاشق ومدى تمزقه بين حبه لها، وبين ما تفرضه عليه التقاليد المجتمعية، وفي هذه العلاقة يحلل المؤلف بذكاء درامي أزمة النظام الاجتماعي، الذي يقف أمام العشاق، وهو الأمر الذي تكرر في رفض الباشا زواج ابنها بالتبني ذكي من ابنته ربة الصون والعفاف.
وفي مسرحيتنا الجديدة على مسرح البالون، تكون هذه المأساة هي لحظة تكشف شفيقة أنها مجرد للمتعة والتسلية، وأن مجدها وشهرتها زيف ووهم عندما تصطدم بأول اختبار قوي مع الواقع.
وهي تلك اللحظة التي تستمر حتى تمرض وتموت بين يدي حبيبها الباشا راغب، الذي يصرخ ألمًا وعذابًا من التقاليد والنظام الاجتماعي، الذي دفعه ليغتال حبيبته معنويًا ويدفعها لهذا اليأس القاتل.
وهو يحلل تلك العلاقة تحليلًا نفسيًا دقيقًا في حوار درامي ثري عن الحب والدم، وعن الحياة وتناقضاتها، وذلك عبر الاستعانة بشاعر كبير هو جمال بخيت، الذي قدم أغنياته في قوالب استعراضية متعددة صاغها بكل فهم، والفترة التي تدور فيها الأحداث وبصياغة موسيقية مبتكرة معًا، الموسيقار صلاح الشرنوبي.
لم تكن شفيقة على اتصال بالوعي العام الوطني، فقد ورد عنها أنها وفي ظل توتر الأمن عام 1919، كانت تقيم حفلًا للزار أعلى منزلها الفاخر، الذي كان مهرب الأعيان والأثرياء من حالة التوتر المصاحب لثورة 1919، كانت شفيقة راقصة شهيرة جميلة ذات حس إنساني مرهق، لكنها لم تمتلك وعيًا عامًا يمكنها من فهم الواقع المحيط، وغياب هذا الوعي هو الذي يقف وراء عمق المأساة.
فهي كما قدمها العرض الجديد شفيقة المصرية ضحية لصدمة الازدواج الاجتماعي، الذي يحتفل بالجميلات الراقصات، ويمنحهن الثروة والنفوذ ويمارس معهن نوعًا من الإنكار والاستبعاد الاجتماعي شديد القسوة، وهو ما أدركه المؤلف د. مصطفى سليم بوضوح، إنها مأساة الحرية والحب.
شفيقة القبطية يؤدي فيها فنان مسرحي متمرس صاحب خبرة مسرحية خاصة، هو الفنان مجدي فكري دور الباشا راغب، مجسدًا ذلك الانفصام بين حياة الرجل الثري القريب من السلطة صاحب النفوذ، ووجهه القاسي الجاد وبين وجهه الصاخب الذي يظهر في عالم الليل، وفكري يقدم الشخصية بفهم واحترافية خاصة، تتضح في لحظات عذابه في حبه لشفيقة وخضوعه للتقاليد الاجتماعية، وكذلك يقدم العرض للمسرح المصري نجمة جديدة قادمة هي دعاء سلام راقصة فرقة رضا الأولى، التي أجادت تعلم فن التمثيل كاشفة عن حساسية مرهفة فيه، ترشحها لنجاح كبير قادم في عالم التمثيل الاستعراضي، وأيضًا الفنانة علا رامي التي جسدت شخصية الراقصة شوق بتناول ضاحك جديد على علا رامي، التي لا زالت تجيد فنون الرقص المحترفة بأناقة واضحة، مواهب أخرى لامعة منها منة جلال في شخصية جمالات الحاقدة على شفيقة، وأيضًا يعود الفنان علاء عوضي بدور سكرتير الباشا راغب في لياقة مسرحية واضحة.
أما المناظر لحازم شبل والملابس، فقد حققا العودة للطرز التاريخية، وأيضًا أضاف شعورًا بالجمال والأناقة أسهم مع فريق العمل في تقديم مسرحية غنائية استعراضية ممتعة، وذلك طابع جمالي وإبداعي، ميلاد حقيقي لمخرج قادم في المسرح الغنائي الاستعراضي المصري، هو المخرج محمد صابر الذي حرص على التفاصيل الدقيقة، وعلى صنع عرض ممتع يحتفظ بالإيقاع العام المتدفق، ويحتفل بجماليات فن الإخراج المسرحي الغنائي الاستعراضي.