عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الحب من أول .. "زيارة"!

الحب من أول .. "زيارة"!

تعلمت أن سر النجاح في الحياة أن تواجه مصاعبها بثبات الطير في ثورة العاصفة، وحين اكبو انهض، فلا أنتظر أن يمد أحدهم يده ليساعدني، وأن أزيل الغبار عن النفس وأجمع حاجياتي لأكمل المسير، فالطريق لم ينته بعد. كان الصديق وزميل المهنة الكاتب الصحفي عبد الوهاب مطاوع يردد "أصحاب النفوس الراضية لا خوف عليهم مهما قست عليهم بعض ظروف الحياة لأنهم يواجهون شدائدها بهذه النظرة المتسامحة التي تغفر للحياة كل ما يلاقونه فيها من آلام وينتظرون بصبر لا يكّل حظهم العادل من السعادة". 



عندما دعاني عميد الصحفيين الكويتيين أحمد الجار الله للسفر للمغرب في رحلة سفر لم أحسب لها حسابًا في رحلة حياتي، لم أعلم إذا كانت ستغير مجرى حياتي أو ستودي بها، أن تفتح لي أبوابًا أو توصدها. ولأني أعشق السفر، وأحب أن أطوف العالمَ على درّاجة الحريِّة، والسفر بعيدا للعثور على ما هو قريب، وأطير لأكتشف دروبًا جديدة، سافرت من مطار لندن هيثرو على الخطوط المغربية بالدرجة الأولى حسب الدعوة الكريمة من الجار الله، في رحلة ممتعة مميزة، ودعتني فيها نجوم السماء بعد الغروب بقليل في سماء شارك قليل من الغيوم في لونها، صفائها كالزلال لا تشوبه شائبة، انعكس صفاؤها على نفوس المسافرين. 

 

استمتعت بالرحلة وبكرم فريق بيت الضيافة ومضيفاتها الجميلات، أشبه بكرم الشراقوة فوق السحاب. استغرقت الرحلة نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، لتهبط بي بالدار البيضاء في مطار محمد الخامس على اسم الراحل ملك المغرب، وهو المطار المصنف الأول على مستوى دول المغرب، والخامس في إفريقيا، والمرتبة الرابعة من حيث عدد الركاب وعدد شركات الطيران التي تستخدم مطار الدار البيضاء. وهو المطار الذي بناه الأمريكيون في أوائل عام 1943 أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية كمطار فرعي لمطار آخر بالدار البيضاء، اسمه مطار برشيد، وبعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، تم تسليم المطار للسلطات المغربية.

 

هبطت أرض مطار الدار البيضاء، وعندما زَاَلَفت إلى صالة المطار وفي منطقة الإجراءات الأمنية المحظورة على المستقبلين، فوجئت بشخص في الأربعينات من العمر، ساحر الطلة، وحضور طاغٍ، وسيم، أنيق الملبس، يبدو كنجم سينمائي بشعر فضي كان في استقبالي، مرحبا بي، قدم نفسه، رمزي صوفيا المدير الإقليمي لجريدة السياسة الكويتية بالمغرب، استأذنني في جواز سفري، وناوله لأحد العاملين بالمطار، وفي دقائق كنت خارج المطار، وحقائبي في سيارته المرسيدس الفاخرة قادها بنفسه ليصحبني لمقر إقامتي. تعمد في الطريق أن يسحرني بهدوء المغرب واستقراره وطبيعته الرائعة التي فاقت ما شهدته في أوروبا، مرورًا بطرق الدار البيضاء، أو كازابلانكا باللغة الإسبانية أو كازا حسب المسمى المختصر الذي يُطلقه عليها سكانها، التي تقع على ساحل المحيط الأطلنطي، مرورًا بأحدث مشروع شيّد ليحتضن البحر بكل عنفوانه وقدرته على إعطاء ألوان الزرقة والغموض والتنوع بهجتها، وحيث يعانق زَبَد البحر الفن والجمال والإبداع المغربي الأصيل، معمار إعجازي استغرق بناؤه في البحر قرابة 16 عامًا وشارف على الانتهاء، وأصبح فيما بعد أشهر معالم المدينة. وأشهر مساجد العالم وأكبرها بعد الحرمين، مسجد الحسن الثاني الذي تبلغ ارتفاع مئذنته 210 أمتار، ثم عبر بي لشاطئ لالا مريم الأجمل على الإطلاق، الذي يطل على المنارة والمساحات الخضراء التي تحيط به ساحرة. ولمزيد من محاولات صوفيا في إبهاري، كان ميدان محمد الخامس وجهتنا بنافورته الضخمة وحولها تصطف أشجار النخيل كموطن لمبنى المحكمة والمحافظة مع تمثال الجنرال ليوتي مؤسس ميناء المدينة، ونجح في إبهاري، ووقعت في حب المدينة، خاصة عندما طاف بي في مواقع تصوير الفيلم الأسطوري الشهير "كازابلانكا" الذي جمع النجمين همفري بوجارت وانجريد برجمان في قصة حب خالدة، والذي تم تصويره في الفضاء المتكئ على أحد أسوار المدينة العتيقة المطلة على المحيط الأطلسي، وتم عرضه في يناير/ كانون الثاني 1943 بمشاركة الرئيس فرانكلين روزفلت في مؤتمر الدار البيضاء الذي جمع قادة الحلفاء لتنسيق الحرب. ولا تزال شعبية الفيلم وحضوره في المخيلة الجماعية كبيرين إلى اليوم، وجعل المدينة شهيرة في جميع أنحاء العالم، باعتباره واحدًا من خمسة أفلام عالمية صورت في المغرب. وقد فاز الفيلم بثلاث جوائز أوسكار، ويعتبر الفيلم الأكثر رومانسية في تاريخ الفن السابع. 

 

استكفى مرافقي بهذا القدر من الجولة السياحية حتى أستريح من إرهاق السفر، وتوجه بي إلى مقاطعة "انفا" غرب المدينة، وهي كلمة أمازيغية تعني القمة، لتأتي المفاجأة الثانية منذ هبطت مطار الدار البيضاء، فقد استضافني الجار الله في مقر إقامته في "بنتهاوس" ببنايات الروماندي، لتستقبلنا مدبرة منزله "مليكة" بالترحيب، واستودعت رمزي صوفيا على لقاء اليوم التالي لبدء دراسة الإمكانيات المتوافرة بالمغرب لطباعة الجريدة.

 

 

اصطحبني صوفيا في اليوم التالي لوصولي في جولة على شركات فصل الألوان في الدار البيضاء ومطابعها، ولم تكن كثيرة، فالمغرب لم يعرف آلة الطباعة الحجرية إلا في غضون عام 1864، حين أقدم فقيه من أهل سوس، هو محمد بن الطيب الروداني، بشراء آلة للطباعة ومعها جلب خبير طباعة مصريًا من عائلة القباني. وأشرف محمد القباني على تدريب المغاربة وتمرينهم على تقنيات الطباعة، اشتهر منهم الطيب الأزرق ومحمد المراكشي، وعبد القادر الشفشاوني الذي أرسله السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن لمصر للتدريب بالمطابع الأميرية المصرية. ولكن الروداني لم يستعمل المطبعة لفائدته الشخصية بل قدمها هدية إلى السلطان بعد شهور قليلة على شرائها، فأصبحت نفقة الطابع المصري على عاتق ميزانية الدولة، وصارت تلك المطبعة تسمى «المطبعة السعيدة» أو «المطبعة المحمدية» نسبة إلى السلطان محمد الرابع، وانتقلت من مكناس إلى فاس حيث مقر إقامة السلطان.

 

ارتبط التأخر في دخول فنون الطباعة العربية إلى المغرب بموقف علماء المغرب من المذهب المالكي من التقنيات الغربية، وعدم الحاجة الملحة لتكنولوجيا الطباعة. فقبل 1864 كان نمط إنتاج الكتب يعتمد على النسخ اليدوي، وهي مهنة محتكرة على فئة أفراد الأسر القديمة، وتشكل وسيلة للارتقاء في السلم الاجتماعي، والاستئثار بالوظائف الرسمية. ومعظم مواضيعها في الفقه والتصوف وبعض علوم الشريعة، ولم يختلف نمط نظام التعليم، فالكتب والمراجع تنتج بنفس الأسلوب، في الوقت الذي كانت الطباعة العبرية قد بدأت بالمغرب في السنوات الأولى من القرن السادس عشر حين أقدم صمويل إسحق اليهودي المغربي على إنشاء دار عبرية للطباعة بفاس.  

 

ويعتبر الطيب الأزرق من رواد الطباعة بالمغرب بعد رحيل محمد القباني الخبير المصري. وقد وجد الأزرق تمويلًا لمشروع مطبعة لطباعة الكتب من تاجر فاسي اسمه حسين الدباغ ونجح في إصدار سبع وعشرين كتابًا، ولأول مرة في تاريخ المغرب أقدم الأزرق على طبع القرآن، دون أن يثير ذلك حفيظة الأوساط الدينية. أما أول مطبعة صحف عرفها المغرب فكانت مطبعة إسبانية أقيمت في طنجة لتطبع صحيفة "أل لبرال افريكانو" أو""الإفريقي الحر" باللغة الإسبانية. بينما كانت أول مطبعة تستخدم الحروف العربية هي المطبعة التي طبعت صحيفة المغرب في ربيع 1889. ولعل أبرز تحول عرفته صناعة الكتاب هو تعاطي بعض الأفراد لهذه المهنة لما تدره من أرباح.

 

وفي هذا الإطار، يذكر فوزي عبد الرزاق أنه كان في المغرب، خلال العقود الممتدة ما بين ستينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، حوالي تسع طوابع ما بين مغاربة وأجانب وكذا حوالي عشرين فردا اهتموا بميدان النشر.

 

وفي سنة 1904، عمل المغرب على إنشاء أول جريدة مغربية في طنجة، وهي “لسان المغرب” للرد على جريدة “السعادة” التابعة للمفوضية الفرنسية التي كانت تعرض تفاصيل القضايا المتعلقة بالسياسة الداخلية للسلطان. كما يذكر المؤرخ محمد المنوني في الجزء الثاني من كتاب “مظاهر يقظة المغرب الحديث”.

 

ويبدو أن الطباعة لعبت دورًا حاسمًا في التطورات السياسية التي شهدها المغرب، خصوصا في نهاية القرن الـ19 إلى دخول الاستعمار، فقد شكلت أداة مثالية لترويج الأفكار السياسية المختلفة، ومن أهم محطات تأثير المطبعة على الأحداث السياسية. وعرفت الثقافة المغربية نوعًا من الحركة الديناميكية التي أدت إلى إحداث تحولات ثقافية مهمة خصوصا على المستوى التعليمي. كما أحدثت ثورة في البنية التعليمية التقليدية بتوفيرها للكتاب المدرسي وبالتالي تنشيط الحركة التعليمية، وتطويرها وتنويع موادها وعلومها وتبسيط مناهجها وتوسيع دائرتها. وأسهمت المطبعة في الترويج السياسي لمواقف سياسية معينة ونشر الأفكار الإصلاحية لرفع درجات الوعي في المجتمع المغربي. كما فتحت الطباعة آفاق التواصل الثقافي والحضاري بين المغرب والخارج، فوصلت أصداء الدعوة الإصلاحية من الشرق انعكست على الكتابات المغربية لا سيما في تناولها قضية إصلاحات التعليم والمجتمع المغربي، وعن طريق الكتب المصرية واللبنانية بواسطة أعضاء البعثات التي درست في جامعات مصر وسورية ولبنان وفرنسا، اطّلع المغاربة على النهضة العربية وعلى الكفاح ضد المستعمر بالدول الإسلامية، فكان له أثر كبير في نقل المعارف وتبادل الأفكار الإصلاحية بين المغرب والمشرق. 

 

 

لم تكن حصيلة جولتي في سوق الطباعة المغربية مبشرة بالخير، فالإمكانيات محدودة وهزيلة في صف الحروف العربية وفصل الألوان.. ولم يكن عدد مجمل المطابع بالمغرب بما فيها الوحدات الصغيرة، وتلك التي تختص في طبع كل شيء إلا الكتاب الثقافي يتجاوز 125 مطبعة.. وعدت بعد أيام من البحث والدراسة لأكتب تقريري! 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز