في تقديري أن التصعيد الذي يشهده السودان، وما يحدث من اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع برئاسة "حميدتي"، كان متوقعا منذ الإطاحة بنظام البشير في إبريل 2019، مهما نفته تصريحات معسولة من الطرفين طوال الأشهر الماضية.
هو صراع كانت شواهده واضحه، خصوصا مع ممارسات قائد قوات الدعم السريع "الأحادية" التي لا تخفي طموحه السياسي، وما مرحلة الصدام المسلح الحالية إلا "قشة قسمت ظهر بعير"، في ظل انعدام الاستقرار السياسي، وحالة الإنسداد والإنقسام بين القوى والأطراف السودانية "عسكرية أو مدنية" على مدى أربع سنوات، حول من تكون له الغلبة في الحكم ما بعد ثورة ديسمبر.
قبل أربعة أيام، كان السودانيون يحيون ذكرى الإطاحة بنظام عمر البشير في 11 إبريل 2019، ويالها من مفارقة مؤسفة أن يكون حال السودان بعد 4 سنوات من نجاح ثورته، هو صدام مسلح بين أطراف المكون العسكري، لم نشهده حتى عند الإطاحة بالبشير، هذا إلى جانب حالة الصراع السياسي بين نخبته المدنية والسياسية التي لم تفلح في أن تجتمع على كلمة سواء، وتستثمر الزخم الوطني بعد ثورة ديسمبر في بلورة مشروع سياسي جامع ينهي الفترة الانتقالية ويمهد الطريق لحكومة منتخبة، لكن صراع النفوذ هي السمة الغالبة على الجميع.
تساؤلات عديدة وحاضرة طوال الوقت في الوسط السوداني، حول قوات "الدعم السريع" في السودان، وجدوى تدعيمها تسليحيا وعسكريا وعدديا، ودورها في المعادلة السياسية السودانية خصوصا ما بعد ثورة ديسمبر، وهل هي مكملة لدور الجيش السوداني الوطني أم أنها قوة "موازية" لاقت دعما من أطراف خارجية، لتستخدم "كشوكة" في ظهر الإصطفاط الوطني السوداني؟! هي تساؤلات تبدو منطقية، فليست هناك دولة تبحث عن استقرار سياسي وأمني، وتسعى لبناء نظام سياسي جامع، ولديها أكثرة من قوة عسكرية مسلحة تصارع الجيش في نفوذه ومهامه!.
هكذا يبدو الحال مع قوات الدعم السريع، بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" الذي ينتمى للقبائل العربية في دارفور، وقاد ما يسمى بميليشيا "الجنجويد" المسلحة التي شاركت في الصراع بدارفور مطلع الألفية، واستخدمها نظام عمر البشير وقتها لمساعدة الجيش في إخماد التمرد، ثم تحولت لقوات الدعم السريع، واستخدمت كقوات حرس حدود لمواجهة الهجرة غير الشرعية وجرائم التهريب، وفي 2017، تم إقرار قانون يمنح "الدعم السريع" صفة قوة أمن مستقلة.
وفي عام 2019، وقع قائد قوات الدعم السريع "حميدتي" اتفاقا لتقاسم السلطة، بعد أن شاركت قواته في إزاحة نظام البشير، تولى بمقتضاه منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ورغم توافق مواقف قائد قوة الدعم السريع مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلا أن تحركاته الداخلية والخارجية وممارساته لم تخفي طموحه السياسي، ذلك أنه حاول كثيرا أن يستفيد من تعقيدات المشهد الداخلي وتناقضاته بارتداء ثوب "الزعيم المنقذ".
ولم يكن غريبا أن تلاحق "حميدتي" الشكوك طوال الوقت بشأن نواياه السياسية، خصوصا مع مواقف مثيرة للتساؤل، كمشاهد استعراض القوة التي تكررت عند تفقده اصطفاف قوات الدعم السريع، إلى جانب تحركاته الخارجية التي كانت أشبه برحلات "سفاري سياسية" التي طالما أثارت جدلا داخليا، لعل أبرزها زيارته المثيرة لموسكو عشية الحرب الروسية الأوكرانية، ومن قبلها زياراته لتركيا وإثيوبيا وجنوب السودان ودول الخليج، ولو نظرنا لتلك الزيارات بحسابات المكسب والخسارة، لن نجد سوى أنها كانت تستهدف تأمين موقع "حميدتي" في السودان، بهندسة شبكة تحالفات في الداخل والخارج تبقيه في معادلة القوى الفاعلة في المشهد السوداني. على هذا الأساس، سبق الصدام المسلح الدائر حاليا في الخرطوم، خلافا محتدما في نهاية شهر مارس الماضي، بين ممثلي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري التي كانت تستهدف وضع جدول زمني لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش السوداني كما نص على ذلك أيضا اتفاق جوبا 2020، ورهن الجيش السوداني موافقته النهائية على الإتفاق الإطاري الموقع من القوى السياسية المدنية في ديسمبر الماضي، بجدولة الدمج في فترة أقصاها ثلاث سنوات، في حين طالبت قوات الدعم السريع مد تلك الفترة لنحو عشر سنوات.
ربما ما نشاهده اليوم من مواجهات مسلحة في العاصمة الخرطوم، هو أحدث مشاهد الإنقسام والصدام الذي لم يغب عن المشهد السوداني طوال الأربع سنوات الماضية، والتي أفرزت ما وصل إليه السودان حاليا، ويلخصه الآتي:
لم تنجح الأطراف السودانية، خصوصا المكونين العسكري والمدني، في تشكيل حكومة توافقية تقود المرحلة الانتقالية وصولا لإجراء الانتخابات، منذ الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك، مع قرارات رئيس مجلس السيادة الاستثنائية في أكتوبر 2021، ومنذ ذلك التاريخ تتولى إدارة البلاد حكومة تسيير أعمال.
- لم تقتصر حالة الانقسام والخلاف بين المكون العسكري والمكون المدني، بل طالت مكونات كل مكون منهما أيضا، وهو ما يبدو جليا اليوم في المكون العسكري، مع حالة الصدام المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
- صراعات بين القوى السياسية، في ظل تناقضات فكرية وإيديوليوجية، كانت حجر عثر أمام توحيد "المكون المدني"، حتى أن تحالف قوى الحرية والتغيير الذي كان يضم ممثلي النقابات المهنية والأحزاب التقليدية والقوى السياسية المختلفة، يواجه خلافات وإنقسامات ظهرت في عمليات التفاوض حول مسار المرحلة الانتقالية، مما زاد من تعقيد حالة الانسداد السياسي.
- تصعيد شعبي مستمر، من القوى السياسية التي قادت ثورة ديسمبر، بحشد مستمر لمظاهرات واحتجاجات في الشارع طوال الأشهر الماضية، وهي لاشك كان لها أثر بالغ على أوضاع اقتصادية متردية بالفعل بالسودان.
للأسف لم تفلح أي تدخلات إقليمية أو دولية أو وساطات خارجية لتسوية المشهد المعقد في السودان على مدى السنوات الأربعة الماضية، ولن أتحدث عن الرابح والخاسر من هذا المشهد، ولكن المتابع لتاريخ الحكم في السودان منذ الاستقلال في 1956، نجد أن مشهد التصارع السياسي والانقلابات ليس بغريبا على هذا البلد الذي طالما كانت الانقلابات السياسية والعسكرية السمة الغالبة، كما حدث مع حكومة الفريق عبود 1958، أو مع جعفر النميري 1969، وعمر البشير في 1989، وبينهما سلسلة من المحاولات التي لم تنجح أيضا. مهما تحدثنا عن خطورة التناحر والصدام الذي تعيشه النخبة السودانية، وحتمية الإصطفاف الوطني للخروج من حالة الإنسداد الحالية، لن تكون أبلغ من درسين مهمين يجب على السودانيين أن يستوعبوهما، الدرس الأول هو انفصال الجنوب، الذي انتهى بعد صراع طويل للجيش مع قوات الجيش الشعبي، في ظل انقسام ومكايدة سياسية شاركت فيه كثير من الأحزاب السياسية الموجوده حاليا، حتى لانفاجىء بإنفصال جزء أخر من السودان، والدرس الثاني ما حدث في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي خصوصا في الدول التي سقط فيها الجيش الوطني لصالح حركات وقوات مسلحة، كما حدث في ليبيا واليمن وسوريا، حيث لم تقم لتلك الدول قائمة بعد أكثر من عقد من الزمان، ولم تنهي أي تدخلات خارجية دوامات الصراع السياسي.
وبالتالي من مصلحة السودانيين جميعا، الحفاظ على مؤسساتهم الوطنية، وفي مقدمتها الجيش السوداني، وهي رؤية تتبناها الدولة المصرية لحل الأزمات التي تعاني منها دول المنطقة، حيث لا سبيل للحل سوى بدعم المؤسسات الوطنية، ذلك أن ما يحدث لن يدفع السودان ولا الشعب السوداني وحده نتيجة ما يحدث، وإنما المنطقة بكاملها.



