إنه الهدف أو الجمهور المستهدف.. إنه جيل جديد هو جيل يدخل لمرحلة الشباب مسرعًا متمردًا في المرحلة السنية من السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة، وقل ما قبل وما بعد ذلك بقليل. مرحلة عمرية خاصة جدًا جميعنا نعرفها ويعرفها علماء النفس والتربية وغيرهم.
وفي ظل عالم بات هو قرية واحدة حقًا يتم استهداف تلك المجموعات العمرية المشتعلة الرائعة المشحونة بالطاقة الحيوية الكبرى والتمرد الأكبر والرغبة في الحرية، وروعة إدراك طاقة الجنس والحب بمعنى طاقة الحياة (الليبدو) كما حددها بدقة علم النفس التحليلي فرويد وتلاميذه ورفاقه، وهي طاقة مضادة لطاقة العدوان أو طاقة الموت.
فما كان من علماء إنتاج الفنون الجماهيرية إلا إدراك هذا التقابل الإنساني الحقيقي بين الجنس والعدوان.
وإعادة إنتاج المعادلة الصحيحة لفرويد والتي أصدقها تمامًا كقناعة معرفية، لوضع مقابلة عنيفة بين الحب والموت، بين طاقة حب الحياة وبين طاقة السكون التام.
ولإحداث ذلك المزج المفتعل قام صناع تلك الفنون المعاصرة بجذب طاقة حب الحياة إلى بوابات الموت، وصنع هذه الجاذبية والإمتاع عبر المخاطرة واستخدام غريزة التوتر والاستمتاع بأعلى درجات الخطر، وهي تساهم عضويًا في إفراز هرمونات عصبية أبرزها "الأدرينالين" هرمون الشعور بالخطر والتوتر.
ولذلك يصاحب حفلات ذلك النوع من الغناء والموسيقى إنتاج ذبذبات موسيقية صادمة قادرة عبر علم الصوتيات على التأثير في الجسد والعقل الإنساني.
ويصاحب تلك الحفلات الصاخبة أضواء ومؤثرات بصرية وعلامات ضوئية ومناظر يضعها مصممون مختصون عبر استخدام الأجهزة التكنولوجية الجديدة في إنتاج الصور الافتراضية ممزوجة بالتأكيد ببعض القطع المنظرية المصنعة. ولعل أبرزها تلك القطع المنظرية هي تلك البوابة الشهيرة التي وضعت كمدخل لمرور جمهور المراهقين عبرها للمشاركة في حفل المطرب الشهير ترافيس سكوت الذي أقيم في 2021 بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي وصفته الصحافة هناك بأنه الحفل الأكثر دموية في تاريخ أمريكا، لأنه أسفر عن وفاة عشرة أشخاص وإصابة المئات.
هذا ويجدر الذكر بأن تلك الأنواع الموسيقية الجديدة، والتي بدأت بالإيقاع الواحد الشهير الثنائي المتكرر، وأجد أخطر أنواعها المعروفة ما تمت تسميته (Metal Music) بالموسيقى المعدنية.
وهي التي تعتمد على ترددات صوتية لآلات الإيقاع الكهربائية الحديثة، وهي حقًا قادرة على تغيير المزاج العام والإحاطة بالفرد المتعرض لها لدرجة فصله عن إيقاع الإنسان الاجتماعي الطبيعي، خاصة أنها موسيقى تساهم في صنع حالة من الرقص السريع العنيف في استعراض لمهارات الطاقة الجسدية المنطلقة للمراهقين.
وهي تبدأ بطاقة حب الحياة لتنتهي بحالة من الإنهاك العام.
أما كيف بدأ هذا النوع الغنائي في مصر؟
جدير بالذكر أنه بدأ بتلك الأغنيات المصورة المسماة بالفيديو كليب، وهي نسخة مصرية أكثر التزامًا بالتقاليد والعادات المصرية، لكنها حققت فعل المشاهدة، وساهمت بتنويعاتها في تحويل الأغنية المصرية من حالة الاستماع إلى حالة المشاهدة والاستماع معًا.
ثم تسربت بالتدريج إلى الحفلات الغنائية مساحات من الفراغ يحضر إليها الجمهور واقفًا من دون وجود مقاعد للجمهور.
مما أدى للانتقال للفعل الثالث وهو الاستماع والمشاهدة والمشاركة، والمشاركة هنا تأتي بالرقص والغناء الجماعي والتلويح الجماعي بالأيدي وما إلى ذلك.
ثم انتشرت هذه الحفلات، وهذا النوع منها متكرر ومعروف، إلى أن جاء الأصل بذاته يسعى إلى منطقة الأهرامات ممثلًا في (سكوت) المطرب الأكثر خطرًا، مطرب المراهقين حول العالم.
جدير بالذكر أن أفعال المشاركة أو التلقي المشارك عرفتها الثقافة الإنسانية منذ العصور البدائية في حلقات الرقص والغناء والموسيقى لطرد الأرواح الشريرة واستجلاب السعادة، والتي امتدت عبر الطقوس الشعبية إلى تلك الاحتفالات الشعبية الشهيرة في كل أنحاء العالم.
والتي عرفنا منها في مصر حفلات الزار الشهيرة، وبعضها تم استخدامه لإخراج الطاقة السلبية بشكل علمي، وواحدة من التجارب العلمية في السيكودراما في المسرح المصري هي تجربة د. حسين عبد القادر استخدمت الزار بطاقته الموسيقية وجماعية الأداء فيه، ومشاركة الفرد بالرقص، إلى استخدامات علاجية مفيدة، بعيدًا عن فكرة طرد الجن الخرافية، والتي بدأ بها الزار.
ويمكن ملاحظة الطاقة الصوتية المبهجة في الآلات الشعبية المصرية، خاصة ما يصدر عن المزمار والطبل البلدي فيهما وطاقة الأرغول وأدوات النفخ الخشبية ولكنها طاقة إيجابية تدفع للرقص الجماعي الشعبي المبهج، وعليها يمارس الرجال التحطيب ويمرح الجميع في استخدام إيجابي لطاقة الحياة لدى المراهقين والكبار معًا.
وجدير بالذكر أن الأغنيات المصرية المصورة تبقى في معظمها تستخدم طاقة الحياة دون وضعها في علاقة بطاقة الموت والعدوان إلا فيما ندر.
وبالتالي فهذا الجدل حول حفل (سكوت) هو جدل من الناحية الفنية يجعلنا نناقش خطورة مقابلة طاقة الحياة مع طاقة الموت في لحظة واحدة، ليس في مصر فقط بل في كل أنحاء الدنيا. وكذلك الحرص على الدعوة لجعل الحفلات الغنائية حول العالم حفلات خالية من المخدرات. إنها ضرورة إنسانية واجبة وليست أخلاقية فقط، وربما تكون أحد أبرز رسائلنا المصرية بمناسبة تلك الضجة المثارة حول حفل (سكوت) تحت سفح الأهرامات.
أما ما يتعلق بمسألة وانتماء سكوت لحركة الأفروسنتريك ولوجود إشارات شيطانية في حفلاته فهي مسألة لا يمكن أن أدعمها بدون تحقق جاد، إلا أن تكرار تلك الاتهامات حول حفلاته، وقيام السلطات الأمريكية بالتحقيق في حوادث فوضى أخلاقية وتعاطي للمخدرات وعنف وموت في واحدة من حفلاته لهي مسألة تستحق التأمل والحذر.
أما عن فعل التلقي المتجاوز لمسألة الاستماع والمشاهدة للمشاركة الفاعلة فهو فعل إنساني قديم جدًا منذ بداية التجمعات البشرية حتى الآن.
ولعل فنون الحداثة وما بعدها ساهمت في تغيير أفعال التلقي من الفرجة إلى المشاركة ومن السكون إلى الحركة، ولكن أي مشاركة أو أي فعل مشارك هذا هو ما يجب مناقشته.
إذ لا يمكننا مصادرة التغيير الكبير في صناعات الفنون الجماهيرية، لكنها حقًا صناعات جماهيرية تحتاج لقوانين لحفظها ومراجعتها، وإذا كان اليونسكو قد حذر من تداعيات التنامي الحر للذكاء الاصطناعي، فحقًا يجب أيضًا أن ندعوه وأن ندعو الآخرين لتأمل أفعال المشاركة في الفنون الجماهيرية، حتى لا تأخذنا أفعال المشاركة الفنية الجماهيرية لعودة لعالم بدائي قديم مشحون برغبة في إطلاق الرغبات البشرية الإنسانية في مزج شرير بين الجنس والموت بين حب الحياة والطاقة الإبداعية الحرة وبين العدوان والغياب عن الوعي.
وهي مسألة يضعها هؤلاء الجدد وفق قواعد علمية ودراسة واستخدام التكنولوجيا الحديثة في الصوت والضوء، لإعادة اللهو في ترتيب الغرائز الأساسية إذ تبقى طاقة حب الحياة في الاتجاه المضاد لطاقة الموت والعدوان، وفي هذا مقصد نبيل للفنون التعبيرية الجميلة.
أما عن سفح الأهرامات وما جرى الحديث عن احتضانه لفعاليات عالمية مرة أخرى أجدد الدعوة التي سبق وأن أطلقها د. ثروت عكاشة كثيرًا عن ضرورة وجود عروض فنية حية منتظمة في المناطق الأثرية المصرية وأبرزها فرقة ضرورة هي فرقة المسرح المصري القديم.



