عاجل
السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
العودة.. زيارة للنقد التشكيلي

العودة.. زيارة للنقد التشكيلي

إنها الدفعة الأولى من خريجي كلية الفنون الجميلة جامعة المنيا 1988، إنه جيل مكتمل أوشك الآن على إكمال مشروعه المهني والإبداعي والإنساني، ولكنني شهدت هذا الجيل في البدايات. إنها الفنون الجميلة في الصعيد، مشروع الأستاذ الدكتور أحمد نوار الذي أسس هذه الكلية وصادق من أجلها القطار.



 

إنهم مجموعة مدهشة جمعتهم الأحلام وجذبهم الفن، وكانوا مفاجأة لأهلهم وأصدقائهم المدرسة آنذاك.

 

منهم حسن غانم، ابن مدينة منفلوط التاريخية والتي تقع بين عالمي القرية ونصف المدينة معاً طابعها الديني الخاص وحيويتها وطيبة أهلها على ما بهم من خشونة، وعاطفتهم الجياشة التي لا يعبرون عنها إلا بالأفعال، إذ إنهم لا يعرفون إلا القليل من كلمات المجاملة.

 

هذه الحالة اليومية التي لا يمكن أن تنبئ بأن هذا الشاب الذي حصل على الثانوية العامة آنذاك بمجموع مرتفع في القسم الأدبي سوف يختار كلية الفنون الجميلة بالمنيا، تاركاً اختيارات كليات القمة آنذاك في العاصمة القاهرة، ولا يمكن أن يكون هذا الاختيار إلا مفاجأة كبرى للأهل الذين ينغمسون في تفاصيل حياة يومية جادة جداً، لم ترد فيها كلمة الفنون الجميلة إلا على سبيل الإشارة لرفاهية بعيدة المنال.

 

كانت الكلية قد جذبت المثال الشهير الآن د. ممدوح الكوك الأستاذ بكلية الفنون الجميلة الجديدة بجامعة أسيوط. وهو ابن تاجر عصامي جداً يعمل في مواد البناء، وأسرة صعيدية جداً شديدة التحفظ والانضباط.

الجميل حقاً أن معظم هذه الدفعة عملت في الصعيد، وفي قرى الدلتا التي جاء منها الكثيرون منهم.

وقد خرج منها مفكرون وأدباء وشعراء وفنانون تشكيليون.  وكنت آنذاك منجذباً لهذا العالم، ولصداقتي مع الكوك أصبحت صديقاً لهذا الجيل الذي تردد على محاضرات المعهد العالي للفنون المسرحية في زياراتهم لي عندما كنت طالباً به، وترددت على كلية الفنون الجميلة بالمنيا كثيراً منجذباً لمحبة الفارس أحمد نوار.

وقد كانت هذه الصلة هي سبب علاقتي الوطيدة بعدد من فناني هذا الجيل من القاهرة والإسكندرية ومنهم الفنان الكبير المثال طارق الكومي.

والتشكيليون غيرنا أهل المسرح والدراما والنقد هم كائنات حسية جداً ومتأملة، وتعشق الوحدة والتأمل بطبيعة عملهم داخل المرسم أو الأتيليه.

إلا أن هذه المجموعة ومعهم د. علاء الطيب الذي سبقهم بسنوات آنذاك، كانوا يعشقون الدوران في الشوارع والقرى والمدن وكأنهم يبحثون عن شيء مفقود.

وقد درت معهم مصر كلها كنا نرسم الشوارع والبيوت والناس والمشاعر على جلدنا كنا نصنع علاقة لم أفهمها إلا بعد مرور ثلاثين سنة على هذه التجربة الممزوجة بعنوان الشباب الأخضر وأخلاقية أهل الجنوب وحرية الفن وتفكيره وعالمه الخاص جداً.

ومن حسن حظ هذا الجيل أنه قد لحق بالكبار في بداية مساره المهني، ومعهم عرفت الفنان المصري الكبير د. الوشاحي رحمه الله رحمة واسعة، والناقد والكاتب الصحفي الكبير سمير غريب ابن منفلوط أيضاً.

إنهما من أحفاد الشيخ المنفلوطي، ونتاج تجربة إنسانية قاسية وملهمة، من أين يأتي الفن إذن؟ خاصة أن معظم هذا الجيل بدأ عصامياً جداً منفصلاً عن العائلة، والتي كانت تراهم في حكم المجانين الفارين من قانون الأرض والصعيد والتجارة والواقع.

إلا أن التعليم الذي جذبهم كان استجابة لرغبات عميقة نحو الفن، وقد أيقظ فيهم الجينات الوراثية المصرية الثقافية التاريخية.

معظمنا كنا لا نستطيع أن نشرح للعائلات ماذا نفعل؟ ما طبيعة عملنا؟ ما معنى أن تكون فناناً في الصعيد؟ إلا أن حسن غانم قد أجاب عن السؤال، إذ إن رؤيته في عمله الفني الممزوج بالصناعات الإبداعية والتجارة أحياناً في الألوان وصناعتها، وطباعة الكتب، وتصميم إعلانات الأفلام والاختفاء للرسم والإبداع واستعادة صفاء الروح، وكان هذا هو طريقه للإجابة التي لا تشرحها الكلمات.

هو علامة على جيلي المتعب الذي أنجز في أيام صعبة وظروف قاسية إنجازاً يجب أن يعرفه الجميع لأنه على قيمته الإبداعية جاء كتحد لكل الظروف المضادة للإبداع. كان علاجاً من الأرق والحزن وكان فعل مقاومة من طراز فريد.

ولعل إنجازه الأهم كان اشتراكه هو وكل من الفنانين حمدي عطيه عماد أغا، عبد الحكيم سيد، ناثان دوس، وعمرو ندا في تكوين مجموعة عمل لنقل وتطوير وتفجير الإبداع لدى مجموعة الحرفيين التطبيقين بالفسطاط، لينتقلوا من عمل أدوات الفخار التطبيقية التقليدية إلى إنتاج أعمال فنية رائعة تجمع بين الصناعة والإبداع، وقد أصبحت الفسطاط الآن نقطة مضيئة في فن الخزف في مصر والوطن العربي. ظل حسن غانم بوعي وبلاوعي يتبع تأثير التراث الشعبي في الواقع اليومي المعاش.

وقد أسعدني بدعوته الكريمة لزيارة معرضه الذي أسماه العودة بجاليري (ضي) بالزمالك وفيه مزج إبداعاً مشتركاً بين فنون الرسم والجرافيك (الطباعة بالحفر) والتصوير، معبراً عن صفاء روحي تشكيلي لا ينبهر بالمعاصرة التجريدية ذات الطابع العالمي، بل يستخدم المفردات التشكيلية المصرية القديمة والشعبية، في فضاء تشكيلي رحب يعود للفن المصري القديم ممزوجاً بعناصر سريالية من مخزون الذاكرة الشعبية المصرية وبقدر من التجريد المصري المبسط الجميل. 

وبالأبيض والأسود وبألوان دافئة تحمل حزن البسطاء النبيل أسعدني حسن غانم بأعماله، والتي تحمل طابعاً درامياً بالتأكيد يتعامل مع فضاء اللوحات ليشحنها بطاقة درامية وبمعانٍ مصرية تعبر عن شوق روحي عميق يبحث للروح عن سلم يصعد به لصفاء الانسجام.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز