عاجل
الثلاثاء 20 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
السنباطي.. معمار النغم بلا منافس

السنباطي.. معمار النغم بلا منافس

في سجل الموسيقى العربية، هناك أسماء لا تُنسى، بل تبقى خالدة في الذاكرة عبر الأجيال، ورياض السنباطي واحد من هؤلاء الخالدين. لم يكن مجرد ملحن يضيف إلى الغناء العربي، بل كان صانع تحف موسيقية تنطق بالإحساس، كأنها خلقت لتعيش إلى الأبد. 



صياغته للألحان كانت بميزان الذهب، حيث تتبع النغمة أختها بانسيابية تخدع السامع ببداهتها، لكنها تخفي وراءها قمة الإبداع. امتلك قدرة نادرة على تطويع المقامات، ينسجها بخيط من السحر، فتنتقل النغمة بين الضفاف بسلاسة لا مثيل لها. 

لم يكن يكرر نفسه، لكنه ترك بصمته واضحة، توقيعا موسيقيا لا تخطئه الأذن. وكأن ألحانه تمتلك روحا خاصة لا تجدها إلا في موسيقاه، حيث تتجسد العبقرية في أدق التفاصيل وأعمقها. 

لم يكن السنباطي مجرد ملحن بارع، بل كان معماريا موسيقيا يشيد بناء متماسكا، يوازن فيه بين الأصالة والتجديد. لم ينفصل عن روح الشرق، لكنه لم يتجاهل تأثير الموسيقى الكلاسيكية الغربية، فأخذ منها ما يُثري اللحن دون أن يفقده هويته.

الكمان في موسيقاه لم يكن مجرد آلة، بل صوتا ينطق بالمشاعر، يسرد حكايات تتصاعد مع تصاعد اللحن، كأن كل وتر فيه يروي قصة مختلفة. أما الإيقاع، فكان ميدانه الواسع، لم يكتف بالقوالب الجاهزة، بل صنع إيقاعه الخاص، حيث يتحول النغم إلى مشهد حي، تتصاعد فيه التوترات، وتتراقص المشاعر مع كل ضربة دف. 

في الأطلال، مثلا، بدأ اللحن همسة، ثم تصاعد رويدا رويدا حتى بلغ ذروته، كأن الكلمات قد ولُدت لهذا النغم، وكأن النغم كُتب لها وحدها. كان بارعا في استخدام الهارموني والتوافقات الصوتية، مما أضفى على موسيقاه طابعا مميزا يجمع بين البساطة والعمق

بلغ السنباطي ذروة مجده مع أم كلثوم، فكان رفيق رحلتها في أنقى مراحل الأغنية العربية. الأطلال، رباعيات الخيام، سلوا قلبي… ليست مجرد أغان، بل أعمال خالدة تجاوزت الزمن. لم يكن اللحن ظلا للكلمات، بل كان بطل المشهد، يرسم الدراما بأدق تفاصيلها، من همسة العشق الأولى إلى الانفجار العاطفي الذي يهز القلب. 

لكنه لم يمنح عبقريته لصوت واحد فقط، بل كان لكل مطرب نصيب من إبداعه. منح عبد الحليم حافظ لحن الوفاء، ووردة لعبة الأيام، لكل منهما لحن مختلف، لكنه يحمل روح السنباطي، كأن كل صوت قد خلق ليلتقي بهذه الألحان دون غيرها.

شهد له الكبار قبل الجمهور، فقال عنه محمد عبد الوهاب "لو لم يكن السنباطي موجودا، لكان على الموسيقى العربية ان تخترعه". أما كمال النجمي، فنعته بـ"آخر الكلاسيكيين الكبار"، وقال بليغ حمدي "لو لم يلحن سوى الأطلال، لكفاه ذلك ليخلد". كلمات لم تكن مجاملة، بل اعتراف بحجم الموهبة التي صنعت مجدا لا يزول.

لم يكن رجل أضواء، ولم يسع إلى شهرة زائلة، لكنه كان يدرك ان الخلود تصنعه الألحان، لا اللقاءات ولا العناوين. اختار العزلة، لكن موسيقاه بقيت اقرب ما تكون إلى القلوب، تسكن ذاكرة الطرب العربي، وتعيش مع كل من يبحث عن الفن الاصيل. 

لم تتوقف إبداعات السنباطي عند عصره، بل بقي تأثيره ممتدا إلى الأجيال اللاحقة، حيث ظل موسيقيون كبار يستلهمون من أسلوبه ويعيدون إحياء روح ألحانه في قوالب حديثة. 

رحل الجسد، لكن النغم ظل نابضا، يسري في الأوتار، ويحلق في الآفاق، ليؤكد أن العبقرية ولدت لتبقى ، ليس لأنه كان بيتهوفن العرب، بل لأنه كان -ببساطة- رياض السنباطي.

 كاتب وباحث صومالي في الأدب والفلسفة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز