

عبد الرحمن غوري
لقاء السحاب.. عندما اجتمع الصوت واللحن في إبداع خالد
كان ذلك واحدًا من أعظم اللقاءات الفنية في تاريخ الموسيقى العربية، وربما أكثرها تأثيرًا. بعد سنوات من الترقب، اجتمع العملاقان أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في تعاون غير مسبوق حمل اسم "لقاء السحاب". لم يكن مجرد حدث فني عابر، بل لحظة فاصلة جمعت بين صوت أم كلثوم القوي، الذي شغل العالم العربي لعقود، ولحن عبد الوهاب المتجدد، الذي صنع مدرسة قائمة بذاتها.
لم يكن هذا اللقاء صراعًا، كما تخيل البعض، بل كان مزجًا بين مدرستين موسيقيتين، حيث التقت قوة الأداء بثورة التلحين. اعتاد المستمعون على أن تكون ألحان أم كلثوم من صنع ملحنيها التقليديين العظام، كرياض السنباطي وزكريا أحمد، لكن عبد الوهاب جاء من مدرسة مختلفة، أكثر انفتاحًا على الموسيقى العالمية. السؤال الذي شغل الجميع آنذاك لم يكن عن الانتصار أو الهيمنة، بل عن قدرة كل منهما على التكيف مع الآخر دون أن يفقد هويته.
شكل هذا التعاون نقطة تحول في مسيرة أم كلثوم، إذ حمل لحن عبد الوهاب بصمات غير مألوفة في الأغنية الطربية الطويلة. بدت "إنتَ عمري" مختلفة منذ بدايتها، حيث امتدت المقدمة الموسيقية لأكثر من أربع دقائق، وهو أمر غير شائع في أغاني أم كلثوم السابقة. لم يكن ذلك مجرد استعراض موسيقي، بل كان إعادة تعريف لدور المقدمة، حيث أصبحت تمهيدًا نفسيًا للمستمع قبل دخول الصوت، بدلًا من كونها مجرد افتتاحية قصيرة تقود إلى الغناء مباشرة.
كان إدخال الغيتار الكهربائي في اللحن خطوة جريئة، إذ لم يكن شائعًا في الموسيقى العربية التقليدية. عزف الغيتار لحنًا شرقيًا بروح إسبانية، مستحضرًا أجواء الفلامنكو أكثر مما كان متوقعًا في عمل كلاسيكي. ومع ذلك، لم تكن هذه الإضافة مجرد عنصر دخيل، بل جاءت ضمن رؤية موسيقية أوسع جمعت بين الآلات الغربية، مثل الغيتار الكهربائي، والآلات الشرقية التقليدية، مثل العود والكمان والقانون، لتخلق تجربة سمعية متكاملة.
لكن نجاح هذه التجربة لم يكن سهلًا. رأى بعض النقاد حينها أن المقدمة الطويلة كانت مجازفة، حيث لم يعتد الجمهور على الانتظار كل هذا الوقت قبل دخول الصوت، فيما اعتبر آخرون أن أسلوب عبد الوهاب غلب على اللحن، مما جعل الأغنية أقرب إلى روحه التجديدية منها إلى المدرسة الكلثومية. غير أن مرور الزمن أثبت أن “إنتَ عمري” لم تكن مجرد مغامرة، بل كانت بداية لمرحلة جديدة في الأغنية العربية، حيث أصبح التفاعل بين الصوت واللحن أكثر حرية، وتراجعت القوالب الصارمة لصالح مساحات إبداعية أوسع.
مع مرور العقود وتغير أنماط الاستماع، ظل "لقاء السحاب" حاضرًا، ليس فقط كذكرى لزمن مضى، بل كنموذج على قدرة الموسيقى العربية على التطور دون أن تفقد هويتها. ورغم هيمنة التلفزيون ثم المنصات الرقمية، لا تزال أم كلثوم تلوّح بمنديلها، مرددة:
"اللِّي شُفتُه قبل ما تِشوفَك عينيّا.. عُمري ضايع يِحسبوه إزّاي عَلَيّا".
هذا اللقاء لم يكن مجرد تعاون بين صوت ولحن، بل كان درسًا في الفن يؤكد أن الموسيقى الحقيقية لا تموت، بل تتجدد في كل مرة تُسمع فيها.
كاتب وباحث صومالي في الأدب والفن والفلسفة.