محمد دياب يكتب: بين العلو الكبير والسقوط المحتوم.. أين نقف؟
لا يختلف عاقلان على أن فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي جوهر الصراع التاريخي بين الحق والباطل، بين أصحاب الأرض المغتصبة والغزاة الذين جاؤوا إليها بقوة السلاح ودعم الاستعمار. فلسطين كانت، ولا تزال، قضية الأمة المركزية، والاختبار الحقيقي لضمير العالم.
إن اغتصاب فلسطين لم يكن وليد المصادفة، بل نتاج مخطط مدروس، أُعدّت له العدة، وهيّئت له الظروف، حتى زُرع هذا الكيان الغاصب في قلب الأمة العربية. أرضٌ كانت مأهولة، نابضة بالحياة، تنبض بتاريخها العريق، فإذا بها تُنتزع من أهلها، ويُشرَّد شعبها، وتُطمس هويتها.
ولكن، هل يُمكن لحقٍ مغتصب أن يُنسى؟ هل يُمكن لجرح مفتوح أن يلتئم بالمساومة؟
لقد خُدع العالم بشعارات زائفة عن "السلام"، وعُلّقت آمال على مفاوضات لم تكن يوماً إلا غطاءً لواقع مرير تتزايد فيه المستوطنات، ويُفرض فيه الاحتلال بالقوة، وتُرتكب فيه المجازر دون رادع.
الحقيقة الجلية التي لا تقبل التأويل هي أن الاحتلال لا يؤمن إلا بمنطق القوة، ولو كان يؤمن بغير ذلك، لما ظل يمارس كل أشكال البطش والقمع على مدى عقود. إن تجربة الصراع تثبت أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن الحقوق لا تُوهب، بل تُنتزع.
إن التاريخ يعيد نفسه، وها نحن نرى اليوم مصداق ما جاء في كتاب الله عز وجل: "لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا". ونحن الآن نعيش مرحلة هذا العلو، لكن النهاية محتومة. فكما سقطت إمبراطوريات الظلم عبر التاريخ، سيسقط هذا الكيان، ولكن متى؟ هذا يعتمد علينا نحن.
إن مصر، التي حملت لواء القضية الفلسطينية منذ بداياتها، لا تزال تُؤكد أن هذه القضية ليست ملفاً سياسياً عابراً، بل التزامٌ تاريخي وأخلاقي لا يقبل المساومة. فكما سطّرت القوات المسلحة المصرية أعظم الانتصارات في حرب أكتوبر المجيدة، وأثبتت أن ما أخذ بالقوه لايسترد بغير القوه، فإن الموقف المصري الثابت يؤكد أن فلسطين قضية العرب جميعاً، وأن حقوق شعبها لا يجوز أن تكون محلاً للتفريط أو المقايضة.
لقد لعبت مصر دوراً رئيسياً في دعم الشعب الفلسطيني، سواء على المستوى السياسي أو الإنساني، وظلت القلعة الحصينة التي تدافع عن حقوقه في كل المحافل الدولية، وتسعى إلى تحقيق التوازن في معادلة الصراع، إيماناً منها بأن الأمن والاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يتحققا إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس.
قد لا تمتلك الشعوب جيوشاً تُقاتل بها، لكنها تمتلك سلاحاً لا يقل أثره عن المواجهة المباشرة، وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية. إن التأثير الهائل الذي أحدثته حملات المقاطعة في الأشهر الأخيرة دليلٌ واضحٌ على أن الضغط الاقتصادي يُمكن أن يكون عاملاً رئيسياً في معادلة الصراع، وأن الاحتلال ومَن يدعمه ليسوا بمنأى عن تداعيات الغضب الشعبي.
من المؤكد أن التساؤل المطروح هو: هل نموذج مثل محمود عباس، أو من على شاكلته، قادر على استعادة دولة فلسطين؟ التاريخ علمنا أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن الحقوق لا تُسترد بالمساومة، بل بالمقاومة. هل يمكن لشخصيات سياسية من هذا النوع أن تحقق ما عجز عنه الاحتلال والظلم لعقود؟ لا شك أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى قيادات تتبنى مفهوم القوة في مواجهة الظلم، وأن المفاوضات مع الاحتلال لا يمكن أن تُثمر إلا إذا كانت مدعومة بإرادة شعبية وقوة عسكرية تقف خلفها.
إن التاريخ لا يرحم، والأمم لا تنهض إلا حين تدرك أن التخاذل خيانة، والصمت جريمة، والتفاوض بلا قوة عبثٌ لا طائل منه. فلسطين ليست ملفاً سياسياً عالقاً، بل معركة وجود، وامتحانٌ أخيرٌ لكرامة الأمة.
لقد أثبتت الأحداث أن الاحتلال لا يفهم سوى لغة القوة، وأن الحقوق لا تُستجدى من مغتصب، بل تُنتزع انتزاعاً. فمن ظن أن التفاوض وحده يعيد الأرض، فهو واهم، ومن راهن على الوقت، فقد خسر الرهان.
اليوم، لا مجال للرمادية، ولا مكان للمترددين... إما أن نكون في صف الحق، أو نُسجَّل في صفحات العار مع المتخاذلين. والسؤال الذي يفرض نفسه: متى تُحسم المعركة؟ الإجابة ليست بيد الاحتلال، بل بيد من يرفضون الاستسلام... فهل نحن منهم؟



