عاجل
الأحد 4 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
تكريس اعتياد الرداءة.. ما بعد الإنسانية والصراع حول الدراما المصرية

تكريس اعتياد الرداءة.. ما بعد الإنسانية والصراع حول الدراما المصرية

دعنا نبدأ من حقيقة بعيدة للغاية عن الدراما المصرية ومستقبلها، لكنها ذات صلة مباشرة بها، إنها حركة ما بعد الإنسانية وهي حركة معاصرة تتجه نحو المستقبل بكل قوة. إذ ينتقل العالم الحديث للاعتقاد بقوة التكنولوجيا وقدرتها على تغيير قدرات الإنسان.



وقد بدأ الأطباء والفلاسفة هذا الاهتمام في عصر التنوير الأوروبي، ومنهم الفيلسوف الطبيب ديكارت الذي سعى لتقدم القدرات البشرية عبر الطب وعبر الموقف من الوجود، إلى أن وصلت الحركة إلى ما هي عليه الآن. 

 

وقد كان رينيه ديكارت صاحب مقولة أنا أشك إذن أنا موجود هو الطبيب الذي فكر في قدرة الطب على تأخير الشيخوخة. وقد شكك ديكارت (1596م – 1650م) في المعرفة الحسية وأسهم في نشأة علم الهندسة التحليلية، إلا أن ديكارت رغم تعدد معارفة العلمية كان قد جعل الأخلاق وما سماه علم الأخلاق رأس الحكمة وتاج العلوم، كما أسس لمقولته الشهيرة عن الفلسفة والتي رأى فيها "أن الفلسفة وحدها هي ما تميزنا عن القوم المتوحشين، وما الفنون إلا موقف فلسفي من الوجود. أما النمط المعاصر لحركة ما بعد الإنسانية فهو يسير بلا حضور واضح لهذا الأساس المعرفي الذي هو تاريخ الحركة كما بدأ في عصر التنويــــــــر.

 

وهي الحركة المعاصرة التي تسعى لإيجاد عالماً بلا أمراض ولا ألم، ولكنها لا تضع الأخلاق في قمة المعارف والتفكير، إنه عصر الإيمان بالسعادة التكنولوجية، وهي الهدف الواضح لحركة ما بعد الإنسانية Posthumanism. وفي هذا الطريق نحوها يعيش معظم العالم المعاصر الآن مرحلة Transhumanism، وهي التي بدأت في الظهور منذ ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، وهي مرحلة العبور أو الانتقال إلى الاعتماد التام على التكنولوجيا.

 

ورغم أن ما يحدث في مرحلة الانتقال الآن إلى عصر التكنولوجيا البشرية، والمزج بين الإنسان والتقنية، يحدث في مجالات العلوم العصبية والطب ومحاولة أنسنة الآلات وباستخدام الهندسة الوراثية لإنتاج قدرات خاصة للبشر والآلة معا، وهو الأمر المفزع الذي وصل لمرحلة محاولة إدخال خلايا بشرية للإنسان الآلي، إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يجعلنا نغفل عن المصاحبة المعرفية عبر التعليم والثقافة والفلسفة والتي تمهد البشر في عالمنا المعاصر للانتقال لعصر الإنسان المدمج في عالم التكنولوجيا.

 

إذن ماذا يمكن فهمه من عناصر تحدث الآن عبر مرحلة العبور نحو ما بعد الإنسانية، وهي عناصر ثقافية يروجها هؤلاء الذين يقفون هناك على قمتهم المنشودة في وادي السيلكون وغيرهم في جنوب شرق آسيا؟ العنصر الأول هو التهجير القسري للبشر وإخلاء المناطق الجميلة على أرض الواقع، إنه بالضبط دفع البشر للحيز الضيق والاختباء في منازلهم وقد شهد العالم هذا الإخلاء العام للشوارع والمتنزهات والأماكن العامة، وكل ما هو صالح لتجمع البشر، كتجربة مذهلة مع كوفيد-19. وبتحليل العديد من الأنواع الدرامية منذ مسرح العبث أو المسرح العبثي وهو المصطلح النقدى الذي جاء به مارتن إيسلن (1981 : 2002) كتعبير عن مسرحيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي سعت لترسيخ مفاهيم الموقف العبثي للإنسان في الوجود وغياب المعنى والفوضى البشرية. وهو ما يتكرر الآن في الحرب العبثية في غزة وامتدادها في سوريا ولبنان وهذه الحرب لا بد أن يصاحبها حرب ثقافية تؤكد فكرة العبث واللامعنى، ولا شك أن المسرح المصري والعربي قد انبهر بمثل هذه التصورات لسنوات طويلة امتدت إلى بعض معالجاته المعاصرة، وهو موقف مدهش لا يعبر عن طبيعة مجتمعاتنا التي تؤمن بالقضاء والقدر وتصيغ صياغات عديدة لحياتها عبر المعنى والسلام الاجتماعي، ولعل امتدادات تحليل المحتوى للدراما التليفزيونية في السنوات العشر الأخيرة في التركيز على سلوك البلطجة والدمار الأسري والثأر والأنانية المطلقة والخيانة بلا أفق هو أحد امتدادات صنع حالة اعتلال المزاج العام والتركيز على إعلاء الفردية وتركيز الأفراد على مصالحهم الفردية الضيقة، في إطار الإجلاء العام لتماسك الجماعات المتعددة، وفي قلبها الجماعة الشعبية التي استمرت في زحامها وتداخلها وتشاركيتها لسنوات طوال، وتلك التشاركية هي سر استمرارها وهو ما يتم العمل على تفكيكه الآن.

 

عبر تحويل البيئة الإيجابية الشعبية إلى بيئة ذات طابع عشوائي تعتمد ثلاثية المخدرات والبلطجة والغلظة في الوجوة والألفاظ ولغة الحوار الجسدي والانفلات الأخلاقي، بينما تبقى العشوائية ظاهرة فككتها الدولة المصرية بنجاح كبير، ولا يجب إعادة إنتاج أخلاقياتها، ذلك أن قيم المناطق الشعبية الحضرية والريفية المصرية لا تزال هي علامة مصر الدالة على عبقرية تجمعها البشري، وهي عبقرية ضد الفردية المفطرة والبقاء في المنازل كحصون آمنة ضد الآخر.

 

أما المسألة الثانية في مرحلة التمهيد لعالم بعد الإنسانية فهي مسألة القطيعة مع الواقع، وهي التي تبدأ بالاعتماد على التطبيقات الإلكترونية في شراء كل شيء وعبر استدعاء كل الخدمات إلى المنزل باستخدام التطبيقات وسوقها الكبير. ولذلك فمسألة الخروج من المنزل باتت مسألة تحدث للضـرورة. حتى التعليم أصبح عن بعد، وبالتأكيد المشاهدات الدرامية الفردية على المنصات قد قلصت المشاهدة الجماعية للفنون في دور التجمع البشري للمسرح والسينما والموسيقى، بل وقلصت المشاهدة الجماعية للأسرة الواحدة، حيث أصبح جمالياً وواقعياً فعل المشاهدة المنفردة هو الفعل الأكثر انتشاراً، وهو الأمر الذي أصبح مصدراً لفخر المنصات المتعددة التي تقدم الأعمال الدرامية.

 

أما المسألة الثالثة الأكثر انتشاراً في معظم أنحاء العالم، فهي المسألة التي انتصرت على معدلات الفقر والتعليم البسيط عبر انتشار ثقافة المسموع المرئي عبر الهواتف الذكية، إنها مسألة ثقافة الاستسلام للواقع الافتراضي، وقد صارت ذات طابع تأثيري انتشاري مسيطر لصنع نماذج محاكاة تقدم الواقع بطريقة افتراضية لتنشر قيما جديدة وترسخ لطرائق تفكير بعضها خرافي، ويعزز لفكرة السعي لسيطرة قوى خفية ما على العالم، ويرسخ لفكرة المواطن العالمي والتي يتم ترسيخها عبر الفنون التعبيرية ومنها الاهتمام بالقانون فقط دون الأخلاق والأديان والتشكيك في فكرة الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، إذ تستهدف فلسفة ما بعد الإنسانية الانتصار على الموت كحقيقة مرتبطة بالوجود الإنساني عبر العلم وتطوير التكنولوجيا، والترويج لهذا الواقع الافتراضي الذي يربط الإنسان بالآلة ويسعى لاستمرار وجوده خارج القوانين البيولوجية والوجودية المستقرة منذ ميلاد الإنسانية.

 

وتنعكس تلك الفكرة بوضوح عبر الدراما التليفزيونية  في العقد الأخير لترسيخ الصور الذهنية التي تختفي  فيها خصوصية المواطنة القومية، وهي وإن كانت تأتي من بعيد لخلق تجمعات منعزلة تفكك الملامح المشتركة للجماعة الوطنية وتدق فيها إسفينا طبقيا يثير الاسترابة لدى الجماهير الغفيرة عن عالم المنتجعات السكنية الفارهة، والتي تشكل بالنسبة لهم هدفا واقعيا افتراضيا يدفعهم لرؤيته كدليل على جودة الحياة، مما يهدد فكرة الرضا العالم ويحضر على التشكيك فيها. إنها إذن مسألة ذات صلة بهيمنة الواقع الافتراضي وصنع نماذج قابلة لإعادة الإنتاج في الحياة اليومية، وهي الصور السلبية المشوهه للمصريين والشارع المصري والتي جاءت في معظم الدراما التليفزيونية هذا الموسم والمواسم السابقة، والتي يتحدث زوار مصر من الأشقاء العرب ومن السياح على أنهم يرون عكسها تماماً في الشارع المصري، ويندهشون من تلك الصور الافتراضية التي سبق أن شاهدوها عبر الشاشات اللانهائية قبل زيارتهم لمصر. مما يجعلنا نلخص تلك العناصر لمرحلة العبور نحو ما بعد الإنسانية في التركيز فلسفياً على الصعيد الدولي على إجلاء البشر والقطعية مع الواقع والاستسلام للواقع الافتراضي، وهي العناصر التي انعكست محليا بطريقة مباشرة وغير مباشرة على مشاهد الواقع، وعلى الفنون التعبيرية المصرية وفي القلب منها الدراما التليفزيونية، إنه السعي أيضا كي يعتاد الجمهور الغفير على استهلاك الرداءة. ولا يمكن الجزم بأن ذلك قد حدث وفقاً لخطة محددة، ولكنه وبتحليل المضمون لتلك الأعمال نراه حاضراً حقا، وهو ما يحتاج لدراما مضادة تستهدف في المستقبل تغيير هذه العناصر، وصنع صور ونماذج تعبر عن هوية مصر وتساهم في العلاج العام لعدد من المشكلات والصور الذهنية السلبية التي صنعتها الدراما التليفزيونية وعدد من الأنواع الرديئة للفنون التعبيرية، وذلك من أجل تحسين وجه الحياة والمزاج العام للمصريين. ويبدأ ذلك الإصلاح حقا إذا ما تحقق شرطه الجوهري ألا وهو حرية التعبير عن آلام وآمال المصريين. بالتأكيد لا نحتاج للتدليل العلمي على أن تلك الشخصيات الدرامية الافتراضية بوجهها الغليظ تمتد إلى حيوات الآخرين وتؤثر على الإيقاع العام للشارع المصري. نحتاج حقا للاعتراف بالمشكلة كي يتم حلها، لأن الإنكار ليس هو الطريق الصحيح بالتأكيد. فقد أعلن الشعب المصري في إجماله هذا العام رأيه، وقالها بوضوح:  أنه لم يعد يحترم الصور الذهنية التي يقدمها عدد من النجوم عنه، مما أسهم في تكاثر آراء الجمهور اللانهائية والتي استخدمت السخرية والغضب الحاد، والتي يمكن حصرها بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.  وما كان حديث السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في هذا الأمر والإجراءات التنفيذية التي أتخذها د. مصطفى مدبولي رئيس الوزراء إلا تعبيراً عن إرادة المصريين وفقاً لاستطلاعات الـــــرأي العــــــام.

 

ولذلك فالضجيج لن يغير الرأي العام المصري، مهما امتلك أصحاب المصالح الصغيرة من الصفات والقدرات المالية ومراكز الضغط الإعلامي، لأنه ليس هكذا يتم الحوار مع الرأي العام. إنه عالم حقاً يسير عبر العلم والتكنولوجيا نحو مرحلة ما بعد الإنسانية، بينما وعبر إساءة استخدام التكنولوجيا والصور الدرامية الغليظة يحاول البعض تفتيت إنسانية وحكمة وثقافة ووعي هذا الشعب العظيم، والذي يجب بالتأكيد أن ينزل الجميع عند إرادته.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز