
شحاتة زكريا يكتب: مصر.. حين يكون العقل سلاحًا في زمن السقوط الجماعي

في لحظة سياسية يُخيَّل فيها للعالم أن الدم لا يُرى وأن الصوت لا يُسمع وأن الحقيقة باتت تُشوه بوقاحة غير مسبوقة، خرجت مصر كما اعتادت لتثبت أن البوصلة لم تنكسر وأن الصوت العاقل لا يزال قادرا على أن يخترق جدران الصمت والتواطؤ.
منذ اندلاع الكارثة الفلسطينية الأخيرة والآلة العسكرية الإسرائيلية تمارس مجازرها بلا هوادة، والغرب منشغل إما بالتبرير أو بالتفرج. وبينما تصدرت واشنطن مشهد الدعم غير المشروط لجرائم الاحتلال ظهرت القاهرة كصوت وحيد تقريبا يرفض العبث، ويصرّ على التذكير بأن الأمن لا يُبنى على أنقاض المدن المدمرة ولا على جماجم الأطفال.
موقف مصر من القضية الفلسطينية لم يكن لحظة غضب ولا رد فعل طارئ، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الالتزام الأخلاقي والسياسي. الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي وضعت ثوابت لا تقبل التلاعب: لا أمن بلا عدالة لا استقرار دون حل عادل، ولا تطبيع على دماء الأبرياء.
لم يكن حديث القاهرة موجها للعرب فقط ، بل كان رسالة صريحة للمجتمع الدولي: كفّوا عن صمتكم المخزي، وتذكروا أن ازدواجية المعايير تخلق أجيالا لا تنسى ولا تغفر. مصر قالتها بوضوح في كل المحافل: من يُغذّي آلة القتل سيحصد كراهية شعوب لا تموت قضيتها ولا تنكسر إرادتها.
في قمة البحرين الأخيرة جاء تحذير السيسي شديد الصراحة: من يلعب على حافة الهاوية سيدفع الثمن، ليس وحده بل قد يدفع العالم بأسره الثمن. فليس هناك من يُراهن على نار مشتعلة ثم يتفاجأ إذا احترق الجميع. الرسالة لم تكن إلى إسرائيل وحدها ، بل إلى من يعتقدون أن قوتهم تُجيز لهم محو الآخر.
واللافت أن مصر لم تكتفِ بالموقف السياسي بل مارست أدوارا إنسانية حقيقية: استقبال الجرحى إرسال المساعدات، والتنسيق المستمر لوقف النار وتخفيف المعاناة. إنها الدولة التي تتصرف كدولة، لا كقبيلة، ولا كجوقة تبيع الشعارات. إنها الدولة التي تعرف الفرق بين المزايدة والمسؤولية.
وهنا تكمن المفارقة: العالم بكل ما فيه من منابر ومنظمات، بدا عاجزا، مرتبكا، ومشلولا أمام الفظائع اليومية. بينما مصر رغم التحديات تمسكت بمبادئها، ولم تدخل بازار الصفقات الرخيصة.
ربما هذا ما يميز الدور المصري: اتزان العقل مع دفء الإنسانية. صوت لا يصرخ لكنه يصل. موقف لا يتغير كلما تغير المزاج الدولي. هذا الثبات هو ما تحتاجه منطقتنا وهو ما يفتقده كثيرون ممن باعوا أوراقهم في مزاد السياسة العالمية.
إنه صوت العقل في زمن الجنون لكنه عقلٌ شجاع لا يخشى المواجهة، ولا يساوم على الحق.
ولعل التاريخ حين يكتب فصول هذه المرحلة المظلمة سيضع مصر في الصفحة المضيئة، حيث اختار البعض الوقوف على التل، وقررت القاهرة أن تكون على الجانب الصحيح من الدم، والحق، والكرامة.