
شحاتة زكريا يكتب: مصر والأزمات العالمية.. كيف ننجو من ارتدادات الصين وأمريكا؟

في عالم لا يكف عن التقلب تمضي الدول في طريقها بين مطرقة الأزمات العالمية وسندان الأثر المحلي، وبينما تدور رحى التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين القوى الكبرى، تدفع الدول الأخرى شاءت أم أبت ثمن هذا التنافس بما يحمله من توترات في الأسواق واضطرابات في سلاسل الإمداد وضغوط غير مرئية تتسرّب إلى الداخل عبر الغذاء والطاقة وسعر الصرف وتكلفة المعيشة.
المشهد العالمي اليوم لا يشبه الأمس وما كان يصل بسهولة أصبح يُحسب عليه ألف حساب ليس بفعل النقص بل بفعل التسييس. بين الصين وأميركا بين الحرب التجارية وسباق أشباه الموصلات بين صفقات الطاقة وتحولات الاستثمارات تتحول الاقتصادات الناشئة إلى ساحات اختبار حقيقية: من يستطيع أن يصمد؟ ومن يُجيد التوازن؟ ومن يُراكم نقاط القوة دون أن يقع في فخ الانحياز؟
إن النجاة من ارتدادات هذا الصراع لا تتأتى بالتمني ولا بالنأي النظري عن مناطق النفوذ بل بإدارة ذكية للفرص والتهديدات وببناء توازنات استراتيجية تحمي القرار الوطني دون أن تعزل الدولة عن حركة العالم. فالمعركة الدائرة بين القطبين ليست فقط صراعا على النفوذ، بل على المستقبل: من يُسيطر على التكنولوجيا؟ من يُعيد تشكيل سلاسل الإنتاج؟ من يكتب قواعد التجارة في المرحلة القادمة؟ وهنا لا يُطلب من الدول المتوسطة أن تخوض المعركة بالوكالة، بل أن تفهم طبيعتها وأن تُعيد هندسة وجودها الاقتصادي بما يتجاوز الاستجابة الظرفية إلى الرؤية طويلة المدى.
فالرهان اليوم لم يعد على الوفرة فقط بل على القدرة على الصمود. لم تعد المسألة هي فقط توفير السلع والخدمات ، بل تأمينها في لحظة اضطراب. لم تعد كفاءة الاقتصاد تُقاس فقط بمعدلات النمو بل بمرونته في مواجهة العواصف وبحجم ما يمتلك من بدائل وقدرة على التحرك عندما تتعثر الطرق التقليدية.
في زمن تتحكم فيه الجغرافيا السياسية بممرات التجارة وتُدار فيه أسواق الطاقة بقرارات تُتخذ في العواصم لا المصانع لم يعد ممكنًا الركون إلى ثوابت قديمة، أو خطط لا تتجدد.
إن ما يجري على ضفاف المحيطين الأطلسي والهادئ من سباق هيمنة بين القوى الكبرى، وما يصاحبه من صعود للحمائية وإعادة رسم للتحالفات الاقتصادية وظهور عملات بديلة ومحاولات لفكّ الارتباط بين اقتصادات متشابكة يفرض على الدول الأخرى – وعلى من يريد أن ينجو منها – أن يُعيد النظر في خريطته الاستثمارية في أدواته الإنتاجية في مصادر تمويله وفي بنيته التحتية المعرفية والتكنولوجية.
المرونة لم تعد ترفًا بل ضرورة. والتنوع لم يعد خيارا، بل واجب وجودي. من أراد أن يحمي اقتصاده فعليه أن يتعلّم كيف يتعامل مع الجميع دون أن يُستهلك في صراعاتهم، وأن يبني مع الجميع دون أن يتحول إلى تابع أو خصم لأي طرف. تلك هي القاعدة الذهبية التي تُمكن الدول من النجاة لا من الارتداد فحسب بل من التحول إلى فاعل قادر على الاستفادة من الفجوات التي تفتحها الصراعات الكبرى.
الذكاء السياسي هنا هو القدرة على استباق الأزمات لا انتظار نتائجها وعلى استخدام الجغرافيا والموارد والفرص الديمغرافية والتكنولوجية في بناء اقتصاد مقاوم، لا يعيش على الهشاشة أو التبعية. والحكمة في أن تُبقي الدولة لنفسها هامش مناورة يمكنها من التنقل بأمان بين ضفتي التنافس، دون أن تقع في فخ الاستقطاب أو تُفقدها المعارك الكبرى سيادتها في القرار.
لقد أظهرت التجربة أن ما يُحرك الأسواق ليس دائما منطق التجارة.بل أحيانا منطق الردع. وما يُوجّه التمويل ليس فقط جدوى المشاريع بل أحيانا لغة الاصطفاف.
ومن هنا فإن الدولة التي تُحسن قراءة المزاج الدولي، وتُعيد تصميم سياستها الاقتصادية الخارجية على قاعدة المصالح لا العواطف، هي التي تبقى واقفة حين تتهاوى اقتصادات وتنهار موازنات تحت ضغط الارتباط العشوائي.
المرحلة المقبلة هي اختبار لقدرة الدول على إعادة اكتشاف ذاتها. لم يعد العالم يفتح أبوابه بالمجاملات بل بالقدرة على تقديم نموذج جاد ومغري ومستقل. وهذا النموذج لا يولد فجأة بل يتطلب تراكما طويلا من العمل الجاد من بناء القدرات الذاتية من تمكين المؤسسات، من توطين التكنولوجيا، من تشجيع الابتكار ومن إعادة النظر في كل ما يجعل الاقتصاد هشًّا أو مكشوفًا أو قابلًا للابتزاز.
من ينجو في هذا العالم المضطرب ليس الأقوى بالضرورة، بل الأذكى. ليس الأغنى بل الأقدر على الصمود. الدول التي تملك قرارها لا تُرعبها الأزمات العالمية بل تستعد لها وتُحسن التموضع داخلها وتُعيد ترتيب أولوياتها بحيث لا تكون جزءا من المشهد العاجز بل جزءًا من المشهد الصاعد.
والخلاصة أن النجاة من ارتدادات الحرب الباردة الجديدة ومن تجاذبات الصين وأميركا لا تكون بالوقوف على الحياد اللفظي، بل بصناعة الاستقلال الفعلي. استقلال القرار واستقلال الإرادة واستقلال الرؤية. فمن يملك بوصلته لا تضيع به الطريق حتى لو ضجّ العالم بالعواصف.