

د. حسام عطا
درس ثورة 23 يوليو 1952.. الدور والاستثمار في الثقافة المصرية
تتجلى أهمية استعادة درس ثورة 23 يوليو 1952 على صعيد الثقافة والفنون في الدور المحوري القيادي المصري في الوطن العربي والعالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ذلك أن ما يعتبره البعض أمرا رمزيا هو سر حضور مصر على الصعيد الدولي وتأثيرها في محيطها العربي والإقليمي.
كان التغيير الجذري الذي صنعته ثورة يوليو 1952 يقوم على مجموعة أساسية من المواقف والمبادئ مثل التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
وقد كان الاستقلال المصري هو بداية انهيار مركزية الاستعمار الغربي التقليدي، ذلك أن مصر كانت علامة على الحرية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وقد انعكس هذا الدور على الاهتمام بالتعليم والثقافة، وكانت مصر الثورة ترسل البعثات التعليمية للوطن العربي ولأفريقيا، وكان الشعب المصري هو الذي يدفع رواتب البعثات التعليمية، لأن الثورة كانت تدرك أن التعليم هو مفتاح التغيير والتقدم.
وكان العمل الثقافي النظامي بلا أدنى شك هو الوسيلة الكبرى لتحقيق الوعي العام وحرصت ثورة يوليو 1952 على المزج بين الإنتاج الثقافي والصناعات الإبداعية الاحترافية والخدمات الثقافية المجانية معا.
كانت الدولة تملك دور العرض المسرحي والسينمائي في مصر والوطن العربي، وكانت العروض الأولى للأفلام في القاهرة وفي صنعاء تحدث في نفس الليلة.
وبعيدا عن أحاديث الماضي التي يراها البعض الآن نوعا من أحاديث العواطف القديمة، فإن استعادة هذا الدور المحوري المصري في الثقافة والفنون يجب أن ندرك أنه في القلب من مسألة تطور الإقليم كله، وهو الطريق السهل إلى الشراكات الاقتصادية والاستثمارية التي نستهدفها مع الأشقاء العرب.
إن الاستثمار بمعناه العام على صعيد الاستثمار العقاري على سبيل المثال هو أمر محكوم بالمعاملات المالية وفقا لاقتصاد السوق، أما الاستثمار في الثقافة والفنون
فهو استثمار في وحدة المصير وثقافة الأمة العربية.
ليس ببعيد عن الذاكرة مدى الحضور الرمزى للثورة المصرية وانعكاس ذلك على دور مصر وحضورها العام الذي نذكر منه على الصعيد الأفريقي ما قاله نيلسون مانديلا: "أستمد القوة من ذلك الفتى الذي تزعم العالم الثالث جمال عبد الناصر".
لا شك أن مصر قد دفعت أثمانا غالية على صعيد المكاسب والخسائر في الاقتصاد والحرب إلا أنها حصدت قدرة الدور على صنع مكاسب اقتصادية وسياسية بعيدة المدى، لا زالت حتى الآن تدر على مصر الكثير من الأرباح الرمزية والمادية.
إن مصر ودورها المحوري القيادي في المنطقة العربية والإقليم هو دور محكوم بقدرتها على الصناعة الثقافية.
إن مصر قوة ثقافية عظمى حقا، ويجب إدراك ذلك بعيدا عن الأفق الضيق وبعيدا عن الولاءات الخاصة في إدارة الشأن الثقافي.
لا شك أن أحاديث الاستثمار الثقافي التي تدور الآن في مصر، والتي لا نعرف من يحاول صياغتها لتبدو معادية للدور المحوري التاريخي للثقافة المصرية في الداخل والخارج معا، وهذه المحاولة التي تبدو وكأنها تنسى تاريخها لتبدأ من نقطة الصفر لا تنظر جيدا لدرس يوليو القريب في مؤسسات الإنتاج الثقافي والإبداعي وكم حققت تلك الإنتاجات الخلاقة الأرباح المالية الكبرى، وكم طافت حول العالم.
لا شك أن الثروة الثقافية البشرية المصرية المبدعة لا يمكن تأجيرها لدول أخرى ولا يمكن الارتكان لتركها معزولة في معازل البحث عن القيم الجمالية والمعرفية لصالح تجار الفنون الجدد، ولصالح الذين يديرون عبر المصالح الشخصية وتفكير الهواة في المؤسسة الثقافية التي عليها أن تكف فورا عن فعل إغاظة المبدعين.
ولأن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه ولكنه حقا يكاد يقول أنا لا زلت حيا ويجب تأمل دروسي.
فمصر بدون ثروتها الإبداعية وبدون الاستثمار في دورها الحضاري التاريخي والمعاصر تفقد الكثير والكثير.
إن تراجع الاحتراف في عملية إنتاج الصناعات الثقافية والإبداعية أمر يتسحق التأمل والاعتراف، ذلك أن الأعمال الفنية الكبيرة والعميقة فكريا وجماليا هي التي تحقق الأرباح المالية والأرباح الرمزية معا، وهي في القلب من دور مصر المحوري القيادي في الثقافة والفنون في عالمنا العربي ومحيطنا الإقليمي، ذلك أن مصر عندما تذكر يتذكر العالم قوتها الثقافية، ذلك أنها أول حضارة في التاريخ.
هذا ما أدركته ثورة يوليو 1952 وهو أحد مصادر شرعيتها المستمرة حتى الآن والتي يجب علينا أن نستعيدها كي نستعيد معها المعنى والجوهر والانتظام في السلوك العام في الشارع المصري، وأيضا نستعيد الكثير من القيم الجمالية والمعرفية ونحقق ذلك الاتصال الذي بالتأكيد لم ينقطع عن دورنا المحوري في الثقافة والفنون حتى وإن اختفت ملامحه قليلا خلف بعض الغيوم.
درس ثورة يوليو 1952 هو استعادة الدور المحوري القيادي المصري في الثقافة والفنون والتعليم لأنه حقا هو علامة صورة مصر الكبيرة.