

وليد طوغان
هؤلاء أمام محكمة التاريخ
صحيح.. سيبقى التاريخ هو الحكم.
يقف التاريخ، على الدوام، حكمًا بين الأفراد وبين الشعوب وبين الدول.
لن يهرب مجرم من محاكمات التاريخ.
ولا يستطيع الفكاك من محاكماته حتى الذين استهانوا، تندروا، وتلاعبوا وأنكروا قدرة التاريخ على الفصل، كما استهانوا وتندروا وتحايلوا وتغولوا على حرمة دماء الأطفال والنساء والعُزَّل على أرض غزة.
لا ينسى التاريخ واقعًا ولا وقائع.
مؤكد فى وقت ما سوف تنعقد نورمبرج أخرى، يقف فيها كل من أراق دماء الفلسطينيين على الأرض، وكل من هدم البيوت فوق أصحابها، وكل من تعلل وكل من تقاعس، وكل من نادى فى الشوارع بالحق، ثم دخل إلى الحارات الضيقة يعقد الصفقات، ويسعى إلى المصالحة والمصالح.
لا هى مبالغات.. ولا هو كلام والسلام.
لأن التاريخ قاضٍ عدل .. وحديث التاريخ قول فصل.
-1-
جدد عبدالفتاح السيسي رئيس الدولة المصرية، للمرة المليون، التأكيد على الموقف المصري من حرب الإبادة فى غزة.
لم تعد حربًا للأمن كما سبق وادعوا، ولم يعد استعادة الرهائن حجة يمكن أن يقيموا عليها تفسيرًا لموجات بربرية تستهدف تصفية شعب، وتفريغ قضية، وإهانة الإنسانية.
تتصدى مصر وحدها. تقف القاهرة صلبة كالعادة، وقادرة كما العهد.
للإنصاف، وبمزيد من الوضوح، فلم يبق إلا القاهرة فى مواجهة معادلات الشر، ومناهج الشيطان.
لن تقبل مصر تهجيرًا، ولا تصفية.
ومصر لا يمكن بمنطق الجغرافيا والتاريخ أن تتحول من باب أكبر للدعم والمساندة والنداء بالحقوق المشروعة، إلى بوابة تهجير، أو مفتاح لنجاح مخطط نار، تدحرجت كراته، فى سلسلة محاولة جديدة للإقرار منذ السابع من أكتوبر بمخطط التهجير.
ما زالت مصر كما هى.
لا تتواطأ فى شر، ولا تتآمر فى ظلم.
وفى محكمة التاريخ، سوف تنشر صحائف القاهرة فى علياء، وسوف تتلى مواثيق الشرف، التي عملت عليها مصر، منذ نشأة القضية، وفى أشد لحظاتها تعقيدًا وحساسية.
لم تشهد القضية الفلسطينية أشد وأقسى من تلك الأحداث. ولا شهد تاريخ الكوكب، حملات إبادة ممنهجة، تخرج عن المنطق وعن نطاقات الإنسانية بكل معانيها كما يجرى على الأرض.
مصر وحدها، وللإنصاف، هى من تتصدى وبكل ما أوتيت من قوة، وستبقى كلمة التاريخ الذي سوف يجىء فيه الوقت ليعقد لأشخاص وأفراد ودول وحكومات محكمة كبرى على المواقف من تلك المأساة.
التصدى المصري وجودى لحق تراه القاهرة وجوديًا أيضًا، ولو تداعى فلن يستقيم للمنطقة أمر، ولن ينعدل للميزان كفوف.
سبق وحذرت مصر من أن الإقليم على شفا حفرة من نار، وسبق أن أشارت مرارًا إلى أن المسألة الفلسطينية هى لب النزاع، وأس الأزمة.
سبق وقالت مصر، إن الحقوق لو لم تُستَعدْ، فإن الاستقرار لا يمكن أن يكون المنتهى، وأن الأمن لن يكون أبدًا المستقر.
لكن، هناك من ينكر، وهناك من يناور، وهناك من لا يحسن التصور، وهناك على الجوانب وعلى الحواف من يلعب بالنار.
بعضهم ترك ما يستوجب وقوفه صفًا صفًا فى مواجهة طوفان ظلم بيّن وافتئات على أبسط حقوق الإنسان فى غزة، ليحيك الحيل ضد القاهرة، ويلوك الأكاذيب عن الدور المصري.
تدفع مصر يومًا بعد يوم ثمن التصدى وحدها.
ليست مرة أولى أو وحيدة، سبق ودفعت مصر أثمانًا لانتصارات، وسبق أن حاول بعضهم اللعب بأقلام سوداء على أكاليل غار مصرية، تمامًا كما سبق بعضهم بمكائد التشويه من الخارج، تماشيًا مع محاولات الهدم من الداخل. سبق وحاولوا الفت فى عضد الشارع، والحد من قدرة العزيمة، فى محاولات زعزعة البنيان، وبمكائد الخصم من القدرة والثقة.
فى الدارج المصري يقولون: « ياما دقت على الراس طبول».
-2-
يقف نتنياهو أول من يقف أمام محكمة التاريخ، وسيقف المطورون العقاريون فى البيت الأبيض أيضًا خلف القضبان.
سيقف فى أقفاص الاتهام دول أخرى، وشخصيات أخرى، ومسؤولون آخرون، وستنشر فى وجوههم صحائف العار، ويوميات ما اقترفوا من آثام.
فى معادلة الشر ثلاثة رؤوس: الإخوان والأمريكان.. وحكومة وكلاء الشيطان فى إسرائيل.
فى الملمات الكبرى يخرج الإخوان زاحفين على بطونهم، يطلبون الثأر. فى الفرص السانحة، يدخل إخوان الشر الكادر، فيرفعون أعلامًا حمراء، بعضها مكتوب عليها شعارات ضالة، وبعضها مكتوب بدماء مصريين سبق وأراقوها، فى بلد سبق وأن عرضوه فى مزاد علنى، ثم تقافزوا يلوكون كاللبان كلامًا عن الحق وعن العدل وعن نصرة القضية.
فى سابقة أولى من سوابق التاريخ، يتظاهر الإخوان ضد مصر بتصاريح عبرية!
لا أحد يعلم كيف فاتت هكذا «لقطة» على تنظيم يدير من تحت أياديه مليارات لتخطيط مضاد، ولخداع ممنهج، ولتلاعب محكم ضد مصر وقيادة مصر وشعب مصر.
لدى الإخوان ثأر من قيادة، كما أن لديهم ثأرًا من شعب أنزلهم من فوق المنابر ومن فوق كرسى الحكم، ورمى بهم فى قاع سحيق، لا عودة منه ولا خروج.
لم يبق لإخوان الشر إلا محاولات تنتحر كلها على مصاطب المعقول، حتى ولو زُيِّن فى أذهانهم فتح أبواب التحالف مع تل أبيب ضد القاهرة، فى حربهم المدعاة منذ نشأتهم لتحرير الأقصى!
مرة ثانية، تقف مصر وحدها فى مواجهة رؤوس الشر كلها.
ومصر قادرة.. أو هى كما الدارج فى الشارع «قدها وقدود».
-3-
فى تقرير لـ«الواشنطن بوست» الأسبوع الماضى حذر خبراء من أن موقف الولايات المتحدة من المسألة فى غزة ينذر لأول مرة فى تاريخ الولايات المتحدة بعزلها عن المحيطين الدولى والإقليمى، ويقطع حبال السياسة بين واشنطن وبين أكبر حلفائها فى المنطقة.
أعادت عدة صحف فى الولايات المتحدة وصف تعامل الإدارة فى واشنطن بمنطق «المطورين العقاريين». تقول أغلب التقارير إن دعم ترامب للآن يظل مدفوعًا بحسابات سياسية محلية، كلها حسابات مغلوطة، قاصرة فى الوقت، ومسيئة فى التوقيت.
وقال خبراء إن حسابات بذلك الشكل قد تجلب الكوارث على الشرق الأوسط، وأنها لا يمكن لها على تلك الشاكلة أن تجلب ما يرغب فيه ترامب من أغراض.
قالوا إن ترامب يلعب بالدعم الغاشم لإسرائيل على دغدغة مشاعر قاعدة كبيرة من مناصريه من الإنجيليين والمؤيدين لتل أبيب.
لا أحد يعرف، كيف يبقى ترامب للآن، على اعتقاده بأن مسانداته على هذا الشكل، وبتلك الطريقة، ووفق ما آلت إليه الأمور فى غزة، يمكن أن تعزز مواقفه فى معارك انتخابية قادمة؟!
على كل، يبقى على كرسى الإدارة فى الولايات المتحدة، للآن، من يوازى بين الرقاب، وبين أصوات الناخبين، ومن يفاضل بين دماء مراقة فى غزة وبين استمالة جماعات الضغط!
مأساة.
أما فى تل أبيب، فإن هناك من ينتحر إنسانيًا استجداء لحكومة ائتلاف، فى محاولات إبقاء عليها قدر الإمكان، مهما كانت الأثمان.
فى اسرائيل رسموا نتنياهو فى تظاهرات الأسبوع الماضى، على صورة ثعبان، بذيول من نار، ووجه شيطان.
وفى مصر، سبق ورفع الشارع صورًا لمرسى الجاسوس، هو الآخر يقطر دماء، وبأنياب ذئاب.
لن يغفر التاريخ جرائم رؤوس الشر الثلاثة، ولن يصفح أبدًا، عما أبداه هؤلاء أو هؤلاء أو هؤلاء.
ساعة التاريخ رملية.. لا تتوقف.. ولا تنسى .. ولا تغفر.