

أحمد إمبابى
مَن يُفسد ملف غزة؟
أسرار ساعات الحسم فى مفاوضات الهدنة
لا تزال تساؤلات المصير، ومَن ينقذ الوضع فى غزة؟، تفرض نفسَها، مع استمرار حرب التجويع والإبادة الجماعية التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلى يوميًا، وسط تجاذبات رؤى ومقترحات لا حصر لها؛ لوقف إطلاق النار، أو لتطبيق هدنة قصيرة فى القطاع، تُغيث سكانه، وكل هذه الجهود دائمًا ما تُقابَل بتعنت أو عدم توافق يعيد الأوضاع للمربع صفر.
وهنا نجد أننا أم تساؤلات أخرى، بداية؛ مَنْ يُفسد كل جهود الحل فى غزة؟، ولمصلحة مَنْ؟، والأهم من ذلك أيضًا، هو لماذا خطوة وقف إطلاق النار فى غزة صعبة؟، لماذا كل هذا الوقت على مدار أكثر من 22 شهرًا، دون اتخاذ خطوة جادة لوقف العدوان الإسرائيلى على القطاع، باستثناء فترتىّ هدنة قصيرة، وذلك على عكس ما حدث فى جبهات صراع أخرى شهدتها المنطقة، كما حدث فى الجبهة اللبنانية، وفى الحرب «الإسرائيلية- الإيرانية» خلال شهر يونيو الماضى، وأيضًا فى اتفاق وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وجماعة «الحوثيين» فى جنوب البحر الأحمر.
أطرح هذه التساؤلات، فى وقت تحقق فيه مصر بجهودها التي لا تتوقف؛ اختراقًا جديدًا لمسار مفاوضات غزة، بمقترح جديد لهدنة تُمَهد الطريق «لحل شامل» فى غزة، وافقت عليه حركة حماس، على أمَل أن تخيب حكومة الاحتلال الإسرائيلى التوقعات، وتتعاطى معه؛ بدلًا المناورة أو التعنت فى إدارة ملف التفاوض.
ونستطيع أن ننظر للمقترح «المصري- القطرى»، الذي جرَى الإعلان عنه الأسبوع الماضى، بِعَدِّه فرصة مصيرية، قد تكون الأخيرة؛ لدحض أى مَساعٍ أو محاولات للاحتلال، لتهجير الفلسطينيين من القطاع، فتلك هى الغاية التي طالما زايَد، وساوَم، وتحايَل لتحقيقها خلال الأشهُر الأخيرة.
رؤية للحل الشامل
ينطلق الحل «المصري- القطرى»، من مقترح المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، الذي سبق أن وافقت عليه إسرائيل ورفضته حماس، لذلك هناك تعويل دولى على تمرير المقترح المصري، والتعاطى معه، من الجانب الإسرائيلى، بَعد أن أبدت حركة حماس موافقتها عليه.
وفى الوقت نفسه؛ يتعامل المقترح المصري مع واقع المشهد فى غزة، بَعد 22 شهرًا من الدمار وحرب التجويع؛ ذلك أنه يضع تصورًا للحل الشامل لإنهاء الحرب، يتضمَّن وقفًا مؤقتًا للعمليات العسكرية لمُدة 60 يومًا، تقوم خلالها القوات الإسرائيلية بإعادة التموضع لإتاحة المجال أمام دخول المساعدات بشكل مكثف ومستدام دون عراقيل، إلى جانب تبادُل عدد من الأسرَى الفلسطينيين مقابل نصف عدد المحتجزين الإسرائيليين فى القطاع.
وبالتالى المعنى أن الطرح الحالى، يتحدث عن مسار الحل الشامل وليس الجزئى للمشهد فى غزة، لكن هذا الطرح مرهون بصياغة إجابات لتساؤلات تتعلق بنقاط يتشدّد فيها طرفا الصراع (إسرائيل وحماس)، خلال جولات التفاوض السابقة، بداية من طلب الجانب الإسرائيلى صفقة لإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين دُفعة واحدة؟، وفرص موافقة حماس على طلب نزع سلاحها، أو تسليم إدارة القطاع للسُّلطة الفلسطينية؟، وصولاً بالمسؤول عن عرقلة كل جولات الحل خلال الأشهُر الماضية؟.
لماذا عادت حماس للتفاوُض؟
والواقع أن تفسير تلك التساؤلات يستدعى، التوقف مع مجموعة من النقاط المهمة فى التدخل «المصري- القطرى» الأخير، وأولى نقاط التوقف، هى التغيُّر فى موقف حركة حماس من قضية التفاوض، ولماذا عادت إليها؟ من بوابة القاهرة، التي سبقتها تصريحات من قيادى الحركة خليل الحية، تنتقص من دَور مصر فى دعم القضية الفلسطينية.
لكن فى المقابل؛ ترأس «الحية» بنفسه وفد الحركة إلى القاهرة؛ للانخراط فى عملية التفاوض، ولا نستطيع أن ننظر لهذه الزيارة فى سياقها العادى، فبلا شك، انطوت على اعتذار أو تراجُع من قيادى حركة حماس عن تصريحاته التي قلل فيها من دَور مصر الإنسانى فى دعم سكان القطاع، وفى الوقت نفسه؛ لم تتوقف مصر كثيرًا أمامَها، ذلك أن غايتها الأساسية؛ إنقاذ الوضع المأساوى داخل القطاع، ووقف إطلاق النار.
أبدت حركة حماس مرونة فى مفاوضات القاهرة، ووافقت على المقترح «المصري- القطرى»، ويبدو أن الحركة تعوَّدَت على أن «تأتى متأخرة»، ذلك أنها أضاعت فرصًا سابقة؛ لتجنيب غزة المزيدَ من الدمار، ذلك أن مقترح الهدنة الأخير، يتسق بنسبة كبيرة مع المتقرح الأمريكى، وبالتالى فإن موافقة الحركة تأتى بَعد أن فقدت الكثيرَ من أوراق الضغط الميدانية، وبَعد أن تضاعفت خسائر الفلسطينيين داخل القطاع، ذلك أن الحركة فقدت نحو %80 من قادتها ونحو %70 من بُنيانها العسكرى- حسب تقديرات مراقبين.
ومع إضاعة مزيد من الوقت، يستغل الاحتلال الإسرائيلى المَشهد؛ لمواصلة جرائمه داخل القطاع؛ فقد بات هدفه حاليًا، الاحتلال الكامل لقطاع غزة، مع مواصلة مخططه لتهجير سكانه لدُول أخرى، وتلك أهداف لم تَعُد خفية؛ بل تتحدث عنها حكومة الاحتلال الإسرائيلى، دون مواربة.
فى الوقت نفسه؛ لا يمكن فصل موافقة حركة حماس على المقترَح «المصري- القطرى»، عن الضغوط السياسية والشعبية، التي تمارس عليها فى الداخل والخارج، وبَعد أن فقدت كثيرًا من حضورها السياسى، وبالتالى قد تكون موافقتها جزءًا من محاولة كسْب شرعية التواجد، لا سيما مع المَطالب الأمريكية والإسرائيلية بنزع سلاح حماس وإقصائها من إدارة قطاع غزة، وفى ظل بروز دَور فصائل فلسطينية أخرى؛ شاركت فى اجتماعات القاهرة.
مَنْ يدير غزة؟
نقطة التوقف الثانية، تتعلق بنقاط الخلاف المتعلقة باليوم التالى للحرب، ومستقبل حركة حماس، فى ظل المَطالب الأمريكية والإسرائيلية بنزع سلاحها، وإقصائها من إدارة القطاع، وهنا سنجد أن الموقف قيد مجموعة من الرُّؤَى المتباينة.
فالجانب الإسرائيلى يتحدث عن إدارة عربية أو دولية للقطاع، قبل تنفيذ الخطة «المصرية- العربية» لليوم التالى للحرب، والتي تنص على إسناد إدارة القطاع، إلى «لجنة إسناد مجتمعى» لا تنتمى لأى فصيل سياسى، ويبدو أن هناك اتجاهًا لتوكيل إدارة قطاع غزة إلى قوَى دولية وإقليمية لفترة مؤقتة بَعد نهاية الحرب الحالية.
وهنا يجب التوقف مع الرؤية المصرية والعربية، التي تدعو إلى تمكين السُّلطة الفلسطينية من إدارة جميع الأراضى الفلسطينية، وتلك رسالة أكد عليها رئيس الوزراء المصري، الدكتور مصطفى مدبولى، خلال استقباله نظيره الفلسطينى محمد مصطفى، الأسبوع الماضى، حينما أشار إلى أن «مصر تتمسك بوحدة الأراضى الفلسطينية فى كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت رئاسة السُّلطة الفلسطينية.
وأمَّا فيما يتعلق بمسألة نزع حماس لسلاحها؛ فلا يوجد أفُق حقيقى لهذه المسألة، وسط اجتهادات وتكهنات عديدة، لكن القول الفصل فيها؛ كان على لسان مصادر مصرية رفيعة المستوَى، التي نفت الأسبوع الماضى ما ورد فى وسائل إعلام إسرائيلية بشأن وجود مقترح مصري بنقل سلاح حركة حماس إليها.
مراوغات إسرائيلية
نقطة التوقف الثالثة تتعلق بالمراوغات الإسرائيلية لأى حلول ممكنة فى القطاع، فلم تتعاطَ إسرائيل سريعًا مع المقترح «المصري- القطرى»، رُغْمَ توافقه مع المقترح الأمريكى الذي سبق أن قَبلت به تل أبيب، غير أن رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلى، نتنياهو يبدو أنه يسعى لإرضاء حلفائه المتشدّدين فى الحكومة، مثل بن غفير وسموتريتش، بالمُطالبة، بـ«صفقة شاملة» تتضمَّن نزع سلاح غزة بالكامل، وعودة جميع الرهائن.
ورُغْمَ الضغوط الداخلية التي يواجهها نتنياهو، ومن بينها المظاهرات المليونية من عائلات الرهائن التي ترغب فى أى صفقة حتى لو جزئية؛ فإنه يبدو أنه ماضٍ فى تنفيذ خطته التي أعلنها أخيرًا؛ بالسيطرة على مُدن قطاع غزة، واحتلال القطاع بالكامل.
وبالفعل بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلى، مَرحلة تمهيدية لاحتلال مدينة غزة، ضمن خطة تسمى «عربات جدعون الثانية» للسيطرة على المدينة، وهى خطة تتضمن دفع سكان القطاع للنزوح جنوبًا، وهو ما يعنى مواصلة الاحتلال الإسرائيلى، التخطيط لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، ما يفاقم من تأجيج الوضع المتأزم بالفعل فى القطاع.
وبالتالى؛ كيف يمكن الحديث عن فرص لوقف إطلاق النار، فى ظِل مخطط احتلال جديد بدأت فيه تل أبيب، دون أن تعبأ لأى قوانين دولية، ما يعكس تجاهلاً كاملاً من إسرائيل لجهود الوسطاء والصفقة المطروحة لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن والأسرَى وتدفق المساعدات الإنسانية، وهى نقطة أشارت إليها الخارجية المصرية فى بيانها الخميس الماضى، الذي أعربت فيه عن استيائها من المُخطط الإسرائيلى.
حقيقة الموقف الأمريكى
نقطة التوقف الرابعة، تتعلق بحقيقة الموقف الأمريكى، ذلك أن واشنطن لم تُبْدِ حتى الآن تجاوبًا كبيرًا مع المقترح الأخير لوقف إطلاق النار، رُغْمَ أنه يتسق مع المقترح الذي سبق أن قدّمه المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط ويتكوف، إلا أن الإدارة الأمريكية يبدو أنها لا تنوى التدخل؛ خصوصًا أن تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للحل فى غزة، تتسق مع الموقف الإسرائيلى؛ خصوصا فيما يتعلق «بالحل الشامل».
ولا يمكن التعويل عمَّا يتردد من وجود خلافات بين ترامب ونتنياهو؛ بشأن الوضع فى غزة، ذلك أن هناك توافقًا بين الجانبين، فيما يتعلق بضرورة القضاء على حماس، وألا يشكل القطاع أى تهديد لإسرائيل فى المستقبل، والإفراج عن جميع الرهائن، وعدم إسقاط مشروع التهجير من أجندة الدولتين.
من هذا المنطلق؛ سعت مصر لتكثيف اتصالاتها الدبلوماسية بهدف الضغط على إسرائيل للقبول بمقترح وقف إطلاق النار، التي كان من بينها اتصال وزير الخارجية بدر عبدالعاطى، مع المبعوث الأمريكى ويتكوف، الأربعاء الماضى، الذي أكد على «ضرورة استغلال الفرصة الحالية بعد موافقة حماس على المقترح الأمريكى؛ للتحرك لوضع حد للحرب فى غزة، ووضع أسُس لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية».
مصر تعيد التوازن
وواقع الأمر؛ أننا نستطيع أن ننظر للتحرك المصري الأخير لوقف إطلاق النار فى غزة، بِعَدِّه تحركًا يستهدف تحقيق التوازن للقضية الفلسطينية مرة أخرى، وليس فقط تحقيق غاية الوصول لهدنة بقطاع غزة، وذلك لعدة اعتبارات، هى:
أولاً، إن اجتماعات القاهرة لم تكتفِ بالتواصل مع حركة حماس فقط؛ وإنما عقدت اجتماعات مع سَبع فصائل فلسطينية فى وقت واحد؛ سعيًا لتحقيق توافق وطني داخليًا.
ثانيًا، استقبلت القاهرة فى نفس الوقت، رئيس وزراء السُّلطة الفلسطينية، محمد مصطفى، فى خطوة تعيد الاعتبار للسُّلطة الفلسطينية، كجهة معترف بها دوليًا لإدارة مشروع الدولة الفلسطينية، وشملت الزيارة، تفَقُّد رئيس الوزراء الفلسطينى لمَعبر رفح ومراكز تقديم المساعدات الإنسانية للقطاع، كأول مسؤول فلسطينى يقوم بهذا الأمر منذ بداية الحرب الحالية.
ثالثًا، تواصِل القاهرة دَورَها؛ لترتيبات اليوم التالى للحرب، بتشكيل لجنة إسناد مجتمعى، وتدريب عناصر الشرطة الفلسطينية، التي تتولى تأمين القطاع، وكلها تحركات تستهدف معالجة أى إشكاليات أمنية وإدارية قد تعيق أى اتفاق.
رابعًا، تحولت القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وبالتالى تستهدف التحركات المصرية؛ إعادة القضية الفلسطينية إلى قضية سياسية تتناولها المحافل الدولية، وليس فقط قضية إدخال مساعدات.
الخلاصة؛ إن ترتيبات اليوم التالى للحرب، لم تعد مرتبطة بالأوضاع فى غزة فقط؛ بل أصبحت تتعلق بترتيبات أشمل لمنطقة الشرق الأوسط، لكن التحركات المصرية لن تتوقف رُغْمَ التشدُّد الإسرائيلى الذي يرفض وقْفَ القتال نهائيًا فى غزة.
نقلاً عن مجلة روزاليوسف