

جيهان ابو العلا
أفراح القُبة فى الحرم الجامعى
فى هذا التوقيت من كل عام، مع بدايات الخريف ونسماته الهادئة، تتبدل أوراق الأشجار القديمة بالجديدة لتفسح المجال لحياة أخرى، تمامًا كما تتجدد الجامعات بروح شبابها، فتشهد أروقتها بداية رحلة لأجيال جديدة من الطلاب، ونهاية رحلة لخريجين يحملون أحلامهم نحو المستقبل خارج أسوارها.
إنه حديث الصباح والمساء الذي يتكرر كل عام داخل الحرم الجامعي.
صباح يبدأ بخطوات مترددة لطلاب جدد تملأ وجوههم الدهشة، وأصواتهم المليئة بالأسئلة تتردد فى الممرات: «فين المدرج» و«هل الجدول ده صح»… صباح يحمل رهبة البداية، لكنه يلمع بوعود المستقبل.
أما المساء، فمشهد مختلف تمامًا؛ خطوات واثقة، أرواب سوداء، قبعات تُلقى فى السماء، ودموع فرح تمتزج بفخر الأهل والأصدقاء. مساء يختصر سنوات من الجهد فى لحظة نصر، لا تعنى نهاية الطريق، بل بداية فصل جديد من الحكاية.
ولأنها الجامعة الأم، صاحبة التاريخ والمكانة، تبقى جامعة القاهرة حلمًا يراود كل طالب، مهما تعددت مغريات الجامعات الأخرى.
وتظل حفلات التخرج فيها الأجمل والأفخم، حيث هيبة المكان والتاريخ تحت القبة التي تعانق السماء منذ أكثر من قرن من الزمان.. أحرص دائمًا على حضور بعض حفلات التخرج لمشاركة الخريجين وأسرهم لحظة الفرح وجنى الثمار.
وتدب القشعريرة فى جسدى وتدمع عيناى مع رؤية المشهد الأثير لموكب الخريجين صفوفًا منتظمة يتقدمهم الأساتذة بملابسهم الأكاديمية المميزة، تصحبهم موسيقى عسكرية تعلن بدء لحظة الانتماء. وصولًا إلى قاعة الاحتفالات الكبرى، بأجوائها الكلاسيكية وجدرانها التي شهدت أحداثًا صنعت ذاكرة مصر الحديثة.
على خشبتها غنّت أم كلثوم أعظم حفلاتها، وفى صفوف جمهورها الزعيم جمال عبدالناصر.
وشهد مسرحها «لقاء السحاب» عام 1964 بين كوكب الشرق وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.
ومن منصتها خطب رؤساء العالم: جاك شيراك (1996)، باراك أوباما (2009)، إيمانويل ماكرون (2019)، فضلًا عن خطابات الرئيس عبدالفتاح السيسي.
كما احتضنت احتفالات «عيد العلم» التي كرم فيها عبدالناصر رموز الثقافة والفكر والفن، ومن التاريخ إلى الحاضر ولحظة دخول الخريجين إلى صدارة القاعة وجلوس أولياء الأمور فى المقصورة العليا، لتتحول القاعة إلى فيض من الفرح والفخر. فى لحظة إنسانية يختلط فيها الحلم بالواقع تختصر رحلة تعب وشقى طلاب وأهالى، لتصبح ذكرى لا تُنسى وصورة للعمر.
وللتاريخ، فإن قاعة الاحتفالات الكبرى بمسرحها كانت قد أُغلقت فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بسبب سيطرة تيارات سياسية على أنشطتها، حتى أعاد الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي الأسبق فتحها عام 1993، ودبت فيها الحياة الثقافية والفنية والاحتفالية من جديد وكانت بداياتها بحفل تخرج كلية سياسة واقتصاد 1993 (دفعتى) واستمرت كحالة من الإبهار الأكاديمى والإنسانى الذي ظل فى ذاكرة كل الأجيال.
ثم توقفت لفترة لاحقة بسبب أعمال الترميم، وأحيانًا برؤية إدارية خاطئة أدت إلى إقامة حفلات التخرج خارج الجامعة، ففقدت تلك الاحتفالات شيئًا من هيبتها وبهائها.
لكن مع عودتها إلى أحضان الحرم الجامعي، استعاد المشهد مجده القديم. وتتوالى كليات الجامعة فى تنظيم حفلاتها تحت القبة، لتبقى «أفراح القبة» ليست مجرد حفل تخرج، بل تسجيلًا للحظات خالدة تروى حديث الصباح والمساء فى جامعتنا القاهرة.
نقلاً عن مجلة صباح الخير