عبد الرحيم كمال
الزمن والثقافة والفن
بعد التهنئة الواجبة بمئوية «روزاليوسف» العريقة، التي أكنُّ لها كل تقدير واحترام وأعد نفسى واحدًا من قرائها حاولت فى هذا المقال أن أرصد معنى من معانى الفن والثقافة لأجدنى أتحدث عن علاقة الفنان بالزمن، ربما أتى هذا الخاطر من فكرة مرور الزمن والمئوية؛ حيث إن علاقة الفنان والفن بالزمن علاقة محورية جعلتنى أفكر أن للفنان زمانين..
للفنان زمنان، زمن يعيش فيه على الأرض، وزمن بعد رحيله، الزمن الذي يعيشه على الأرض محسوم فيه عمره وإبداعه بتوقيت محدد، والزمن الذي يعيشه مُنتَجه الفنى (ككاتب أو مطرب أو ممثل أو فنان تشكيلى.. إلى آخره) هو زمن تقديرى، زمن له مدة صلاحية، فمنهم من يختفى بمجرد موته، ومنهم من يظل حيًا، وتكون تلك الحياة بعد الموت لفترات متفاوتة تختلف من فنان لآخر، وفى ظنى أن الزمن الذي يعيشه الفنان بعد موته كمُنتَج إبداعى، تتحكم فيه عوامل عدة، أهمها مدَى قدرة تجاوز منتجه لعصره، هناك فنان مثلًا يعيش زمنه الحقيقى فى ترتيب متأخر بين أقرانه المعاصرين، وربما يكون السبب فى ذلك الترتيب المتأخر هو ميزته الأساسية فى تجاوز منتجه لزمنه، لتتحول تلك الميزة نفسها إلى سبب مُعطِل وقت حياته، ومبرر لاستمرارية وجوده بعد الموت، وقد يكون ناجحًا نجاحًا مدويًا فى حياته ثم يخفت هذا النجاح بعد انتقاله للعالم الآخر، وفى هذا العصر الحديث ساهمت التكنولوجيا فى بقاء المنتج الفنى محفوظًا على شبكات الإنترنت بعد وفاة الفنان، فزادت من فرص إعادة تقييمه بوضوح، بينما اندثرت أعمال الفنانين الذين رحلوا قبل ظهور إمكانية الحفظ والتسجيل.. والعجيب فيه قصة حضور أعمال الفنان بعد موته تلك، أنه حضور له طابع خاص، حضور نادر لا يمكن تكراره، وتلك الندرة تجعله فى مكانة خاصة، مكانة أيضًا تُحدد عمره الزمني الجديد، وتعيد ترتيب أعماله من حيث القيمة ترتيبًا ليس له علاقة بالترتيب القديم وقت حياته، فيعلو له الآن عمل من أعماله على حساب عمل آخر كان أكثر سطوعًا وقت حياته، وهكذا، وكما أنه (لكل أجل كتاب)، فكذلك لكل أجل وعمر فنى كتاب أيضًا، لنخلص من ذلك كله أن هناك لحظة معينة يموت فيها الفنان وأعماله مرة أخرى وللأبد، كما مات من قبل، لحظة حتمية، وهذه اللحظة لها دلائل قوية حينما تظهر تعلم أنها النهاية، وأقوى تلك الدلائل، أن يكون الاحتفاء بذلك الفنان قد وصل إلى ذروته، وتتعدد الأعمال الفنية التي تسرد لنا حياته ومُنتَجه الفنى، فتُصنع عنه المسرحيات والأفلام وتُقام الندوات والاحتفاليات العديدة، وفى زمن قصير متقارب عن فنان راحل معين بشكل غير مسبوق من قبل، ويتحدث عنه فى توقيت واحد النخبة والعوام معًا، ويصبح اسمه عنوانًا وأعماله نموذجًا وتُنحَت له التماثيل ويُطلق اسمه على الشوارع والميادين، هنا وعند تلك اللحظة من السطوع لسيرة الفنان الراحل وأعماله نُدرك أننا عند لحظة الموت الثانى والنهائى للفنان، موتًا لا حياة بعده إلا فى الأغراض البحثية، هكذا تكون دورة حياة الفنان الجديدة، فيستمر فنان ما فى نجاحه وتألقه بعد الموت لخمسين عامًا أو ستين، أو سبعين، ثم يصل إلى ذروة الحضور والاعتراف الشعبى والرسمي، ثم يختفى، وبين الموتين والحياتين تظل لحظة الموت الأولى، الموت الحقيقى للفنان هى اللحظة الأكثر أهمية؛ لأنها اللحظة التي يكتمل عندها مُنتَجه الإبداعى، ويمتنع عن الزيادة والتكرار، وينتقل من مرتبة المتابعة والتنافس إلى مرتبة التقييم والفهم والتأويل، ومن المفارقات فى ذلك الأمر أن الفنان نفسه وقت حياته لا يصل إلى ذروة المَجد والسطوع بالشكل الذي يصل إليه بعد الموت؛ خصوصًا فى بلادنا الشرقية؛ لأن الموت يضفى قَداسة ما على الفنان وينقله عند الناس من رتبة إلى رتبة أعلى، ووجود معاصرين منافسين يقلل من سطوع نوره، وربما كان ذلك فى باطنه نعمة على الفنان حتى يستمر فى المنافسة والصراع والشغف من أجل إثبات الأفضلية فيقدم لنا مزيدًا من الفن ومزيدًا من نور الإبداع، فيُكابد ويجتهد ويُقاوم ليواصل الحفاظ على مكانته، وما أن يموت حتى ينبرى المحبون فى إعلاء شأنه وشأن فنه ويتوارى الكارهون قليلًا مُراعاة لحرمة الموت ليحظى بأيام من التقدير الخالص، ومع مرور الأيام والشهور والسنين يُعاد تقييمه وتقييم مُنتَجه بين المنافسين الذين رحلوا أيضًا وينال حياة افتراضية لها وقت معلوم يقصر أو يطول حسب ما قدم من فن عابر للزمن وقادر للقفز فوق الأجيال؛ مزاحمًا بكتف واهن للأحياء الذين لا يزالون يقدمون فنونهم، ثم يصل إلى قمة الحضور فى الغياب، ثم يتوارى فى طى النسيان.
ويعترينى فى تلك الفترة تفاؤلٌ كبيرٌ بواقعنا الثقافى والفنى الذي يبدو أنه يطوى صفحات مهمة ويفتح صفحات جديدة فى شتى أنواع الفنون والثقافة.. تفاؤل يعززه التاريخ والجغرافيا وثقتى فيما أراه من خطوات فنية جديدة لجيل واعد من المثقفين والفنانين فى العام الخامس والعشرين من القرن الواحد والعشرين.
نقلاً عن مجلة روزاليوسف (العدد المئوي)
















